دراما الطفولة والحرب

14 نوفمبر 2023
أطفالٌ لاجئون في مدرسة بغزّة، 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

كيف تُساعد طفلتك أو طفلك، بعدما نجوتما، كي يتغلّب على رحيل أحد أفراد الأُسرة، في دراما الطفولة والحرب؟

وكيف تتعامل مع وقتك الداخليّ باعتباره الحياة الحقّة، حين يظهر متفحّماً، نتيجةً لقصف صاروخ من طائرة، أو مترمّداً وقد ملأ محيطَك غبارُ الإسمنت من ركام البيوت؟

أُدقّق، فأُلاحظ أنّ وجوه الناجين، كلّها تقريباً، مدموغة بالسّخام، على شكل بقع كثيفة، وكذلك ملابسهم.

إنه لا يجوز القول: "كأنهم خارجون من محرقة"، لأنّ كاف التشبيه، هنا، فائضة وثقيلة، ولا محلّ لها من الواقع.

هُم بالفعل كذلك: ناجون من معمودية فرن النار، والناجي يحتاج لصمت رحيم وحضن حميم، في مساحة آمنة، يربّتان عليه، لا أن يبقى محدّقاً في ذهول الصدمة بين كومة الأنقاض... لكنْ حتى هذا الحقّ الأوّليّ متعذّر تحت هول طائرات "الإف 35" إذ تحرث السماء، ناهيك عن قصف البوارج ومدافع الدبّابات من الجهات الثلاث.

أفكّر في ما يلي الحربَ من خراب في العمران والأرواح والأبدان

أفكّر حقيقة في الناجين المنسيّين، الذين إن لم ينعطب لهم عضوٌ من الجسد، فقد انعطبت الروحُ كاملةً - ربما للأبد - أثناء نزولها نحو دركات الجحيم، وكأنّ ما يحدث مشهدٌ في رواية قوطيّة من القرن التاسع عشر، لا في الميدان والعِيان.

أفكّر، لأني أعرف عبر تراكم الخبرات والتجارب أنّ ما بعد الحرب، مهما قَسَت، لهُوَ أسوأ من الحرب ذاتها.

أفكّر في الأكلاف والمُضاعفات... في التداعيات، وما يليها من خراب العمران والأرواح والأبدان، ولؤم دول المحيط وتلكّؤها في إعادة الإعمار، لأنّها مرتهنة لإرادة العدو، وأهلُ القطاع أدرى برذائل تلك الدول وذلك العدوّ.

أفكّر فيما هو أنكى وأَمَرّ: لقد أوردت "العربي الجديد" للتوّ أنّ "الإدارة الأميركية نقلت لقوى عربية تلك التصوّرات، التي تتضمّن عدم إعادة إعمار منطقة شمال غزة بالكامل مجدّداً عقب انتهاء العدوان، وذلك في إطار توسيع المنطقة العازلة مع قطاع غزّة". وما خلف الخبر - لا سمحَ اللهُ وشبابُنا - أنّ اليانكي سيحرم كتلة ضخمة من المواطنين من إعمار بيوتهم الممحوّة، قاذفاً بهم إلى المجهول، ليحفظ أمن صنيعته المكلومة.

أفكّر في رضّة الروح حين تحيا على امتداد جغرافيا صغيرة، مدمّرة تماماً، وكأنّ زلزالاً فوق مقاييس ريختر مسحها عن بِكرة مبانيها وناسها.

أفكّر في خمسين ألف امرأة من الحوامل، منهنّ جاراتٌ وقريباتٌ ومعارف، يعشن الآن دون طعام أو ماء أو تخدير في حال احتجنَ ولادةً قيصرية؛ في أنّ نحو خمسة آلاف وخمسمئة منهنّ سيُنجبن خلال هذا الشهر، أي أكثر من مئة وثمانين ولادة يومياً، من رفح إلى بيت حانون، وفقاً لسجلّات الأمم المتّحدة.

أفكّر في نساء العائلة، ومنهنّ عشرات سُوّيت بيوتُهنّ بالأرض، فَهِمْنَ في أفق الضباب والغبار، يتنقّلنَ من بيتٍ لقريبٍ إلى بيت آخَر أو خيمة. عشرات أنا خالهنَّ أو عمّهنَّ، بعضهنّ استجرن بدارنا مستغيثات قبيل غسق الفجر، (قبل أن ننزح لمدرسة الوكالة)، وقد قُصف بيت مجاور للبيت الذي كُنَّ قد لجأنَ إليه قبل أيام.

أمّا من استشهدوا، فقد قضوا ومضوا، ولهم ربٌّ أكرم منّا جميعاً. 

قلبي على الناجين، لا على مصفوفة الجثامين الشهيدة، وقد أعوزتها الأكفانُ والمقابر، رغم سعار الألم.

قلبي ولساني يحشرجان، في ساعة الغبش هذه، حيث ينجرف المرءُ إلى عالم من الأشباح، العتمة والرّدم، والمأساة المُتنبَّأ بها: لن ننسى ولن نغفر.


* شاعر فلسطيني مُقيم في بلجيكا

المساهمون