خيطُ ظُلمة وخيطُ نور

22 يونيو 2023
فوتوغرافيا لـ عباس كيورستامي
+ الخط -

كَلِمَة شِعْر

في ما مَضى كانتْ لي كَلماتٌ قليلة
لم تكنْ مِن بينها كَلِمةُ طفولة ولا كَلمة حُلم
كُنتُ ألعَبُ بالحَجَر
والأعشاش
والسَّواقي
والكِلابِ الأليفة
إلى أن اهتَديْتُ إلى كَلِمَة غريبة
ومِن بَيْتِها الجميلِ الذي يُوجَدُ بالغابة
جاءَتْني كَلِماتٌ أُخرى
مِنها الشَّجَرةُ
والبَحْرُ والوَادي
الذي يَهيمُ فيه الشُّعراء.


■ ■ ■


الصَّخرةُ

الصَّخْرةُ تأسرُ النَّورسَ والغَريقَ 
الذي يَقتاتُ مِن جُذورِها
الكَلِمةُ الوَحيدةُ التي تَكتنز سِرَّ ذلك 
هي الصَّمتُ.
أحياناً تَظهَرُ جَريحَةً مُتلاطِمة بالأمواج الكَبيرةِ
وأُخرى تَهبِطُ عميقاً في الأعماق 
لِتَشْهَدَ على وِلادةِ شيءٍ.
عَتْمَةُ المَوجِ واللَّيلِ المُتَقَلِّب لا تَقُولُ شَيئاً،
وَمَنْ يَقِفْ يَمْضِ بَعْدَ طُول انتظارٍ، بَعْدَ أن يُعطيهِ
الصَّباحُ إشارَةً،
حالَمَا يَخفقُ الطائرُ الكبيرُ
بِجناحِه الدامي المُحترِق.


■ ■ ■


رِسَالَةٌ

رِسالتُكِ التي لَم تصِلْني،
وَجَدَتْنِي بِألفِ خَيْر.
الكَلِماتُ الحَبيبةُ مثل النافِذة
في حَوْزَتي،
وبإمكاني أنْ أُطِلَّ مِن كَلِمَةِ سفينة على الطوفانِ القديم،
بإمكاني أنْ أنزلَ عَبْرَ كلمة سَلالِم
إلى مُستَودَع الخَمرَةِ،
المَوْجُودِ أسْفلَ القَبوِ.
أُسنِدُ ظَهري لِلهديرِ
مُنْصِتاً لِأغنِية الرِّياحِ 
وَحُطامِ السُّفُنِ
شارِباً نخبَ تلكَ الكَلماتِ الضائعة
التي لم تَطرُق بابي،
لَم تَعصُر غَيمَها المالِح فوقَ وَجهِي،
لَم تَصبغ بَيتي بِالأزرَقِ
الذي أَعْشَقُ النَّومَ فيهِ.


■ ■ ■


دَمٌ مُسْرِفٌ

باقتصادٍ، لا أكتُبُ.
(مَن كان مِثلي، هل يتَسنَّى له ذلك؟)
إني شاهِدٌ على المُجازَفة بِأزهارِها الزَّرقاء
التي تُشرِفُ على الحافَّة
مِن جُحْريَ اللَّامَرئي.
في كُلِّ أثَرٍ مِنِّي
مَهما كان نافِلا، صَغيرا، ويَكادُ لا يُرَى
ثمَّة دمٌ مُسرِفٌ، دَمُ النَّحلة
ثمَّةَ حَجَرٌ أبيض، هو حَجَر النَّرْدِ على طاولة الشعراء
ثمة رياحٌ بأصابِعَ طويلةٍ، أصابع السَّاحِرة

تَمْتَدُّ مِن أعماق الهاوية
تَخلعُ النافذة
وتحمِلُ السَّريرَ الذي يَرْقدُ فيه الطفلُ
إلى البَحْرِ
هناك، يَحلُمُ مَن كان مِثلي بِبَيْتٍ وقلْبٍ طافحِ الخَمْرة،
أفتحُ جُمْلةً لها بابَان وشُرفَة
مِنها يَأتي نُوتيٌّ حَزينٌ
يُرشدُ الصَّخْرةَ إلى أغنية الغَريقِ
أنا بالأسْفل
أرَدِّدُ مَقطَعَها الأخيرَ المُثقَلَ بالمِلْح
مَقطعَ الصياد 
الذي تخلَّى عَن قَصَبته وعَلَّقَ المَوْجةَ على جُدران بَيتِه القَديم
لِيُصْبِحَ نَجْمَة بَحْرٍ.


■ ■ ■


قَبرٌ

(إلى روح والدي) 

لَم أكُن قد أحبَبتُ الغِربانَ
ولَم أستأنِس بِظِلالِها التي تَلعَبُ
على أرديةِ البيتِ.
يَدِي كانت صغيرةً
وقدمايَ لا تقوَيانِ على الأديم.
مِن شقٍّ ضئيل، تَلمَعُ العَينُ ناشِرةً خيطَها الواهيَ
على الشّرشف ومَهدِ القصَبِ
الشَّبيهِ بِمَركَبٍ مُعطَّلٍ.
لَكِنْ ما إنْ فَتَحتُ قلبي عَلى صَوتِ الرِّياح،
وماكينةِ الزَّمَنِ ذاتِ الصَّريرِ
حَتى جاءَتني الكَلِماتُ غزيرةً،
مِنها المَطرُ الذي غَسَلَ أحجاري،
التُّرابُ الَّذي سَوَّيتُ مِنهُ تَلّةً
بأشجار بَيضاءَ،
مِنها كذلك البَحرُ
الذي يَتهادَى في قفَصِه الأزرق
بِلا سَقفٍ مِثل نَمِر الأبَديَّة.
لَم أكُن أحِبُّ الغِربانَ،
ولا ظِلالَها المُريبةَ
إلى أن غَمرتني هذه الكَلِماتُ
فَصِرتُ أقِفُ طويلاً عند تِلك الكَلِمة السَّوداء
المُجَنَّحةَ، 
التي ما إن لَمَسْتُها  
حتَّى استَجابَت بالحَفر في يَدِي
بِقَوائِمِها ومِنقارها وأجنِحَتِها،
فلَم تَتَوقَّف إلّا بعد أن أصبَحَ القَبرُ جاهزاً
لِمُواراة أبي مَرَّة أُخرى
تَحتَ أشجار 
الحِبر الصَّديقةِ.


■ ■ ■
  

الفِردَوس

اهبِط إلى تُفَّاح قلبِك، واسمَعْ أغنيةَ الماء 
دَعِ الحَمامةَ تطيرُ إلى أيّ يابسة
اترُكِ الأغصانَ تَهَبُ فاكِهتَها لِلشَّمسِ والمَطرِ والريحِ 
فما مِن أخٍ يَحتضِرُ هنا
ما مِنْ غرابٍ.
اِذهَبي أيَّتُها الأفعَى مع الحَمامة إلى أقربِ وادٍ، وامْلَئي الجِرَارَ،
ابحَثي عَن عُشبة صالِحَةٍ.
اِشرَبْ أيُّها الأيلُ مِن عَين النَّمِر المخطّط
دَعِ اليدَ تَسوسُ البقراتِ مِن خَلف سِكَّةِ المِحْراث الخَشبيِّ، 
كما يَسوسُ
النُّوتِيُّ مَرْكَبهُ.
دَعْها تَشرَبُ مِنْ أوراق الشَّجَر
بَعْدَ قليلٍ 
سَترجعُ عقاربُ الساعةِ إلى اللَّيل الأوَّل،
الليلِ القديمِ،
رفيقِ المِياهِ الأُولى:
الفِردوسُ على مَرْمَى حَجَر!


■ ■ ■


الأرض

خَيْطُ ظُلْمَة وخيطُ نور
سَحَبَهُما المَلاكُ مِن خَزائنه السِّرية
وَخاط قلبي.
الخيطان أصبحا جَناحَيْن،
والأرضُ المَنفى
الأرضُ المَسْكنُ
حَمَلتُها بَيْنَ كَتِفَيَّ
وأنا أجوبُ بحاراً أراها لِلْمَرَّةِ الأُولى،
ولِلْمرَّة الأولى
أترُكُ الرِّيحَ تَحْمِلُ إلى طِفلِها الكَبير
واحدةً مِنْ أجمَلِ ريشاتي.
المَلاكُ الذي لِأَجلي سَحَبَ الخَيطَينِ 
كان يَقرأ على مَسْمَعي
أوَّلَ نَشيدِ إنشاد هذه الأرض.


■ ■ ■


الزَّرَافَةُ

أحِبُّ الزَّرافةَ، جَمالُها هادِئٌ ومُلْتهِبٌ.
وَقفتُها سامِيةٌ مِثلَ نَظْرتِها، لَكِنَّها عِندما تَنْحَنِي
لِتَشرَبَ مِنَ الغدير، 
يَتداعى فيها شيءٌ
فتبدو أقربَ إلى رَسْمة طِفل.
وإذْ تستأنِفُ مَشْيَتَها
تكونُ صادقة الدَّلال،
حتى أنه لا حيوانَ في البَريَّة
يُجاري كِبرياءَها
باستثناء القمَر
الذي يأتيها مِن خلَل الأغصان
ضاجّاً ببُرتقاله، 
مَشوباً أحياناً بِحَليبٍ 
مَخلوطٍ ببعض الرَّماد.
مُتوَّجَةً بأوراقِ الشجَر
تبدو مِثل إلهَةٍ 
تَنبثِقُ لِشَعْبِها المُخلِص مِن شُعْبَة النار،
بِقَرْنينِ فوق الجَبين.
نظرةٌ مِنْ ذلك العُلوِّ 
تجْعلُ الضَّواري
تَنحَنِي تَحْتَ أقدامِها بِأجْنِحَةٍ مَطوِيةٍ
وأيدٍ تَستريحُ بِسَكينةٍ على الأرض.
لَعلّها الزَّرافةُ
التي غادَرتْ سفينةَ نوح،
مُنذُ دهور خَلتْ،
بمُجرَّدِ ما رَفرفتِ الحَمامة 
في وَجه نبِيِّ الله،
وَارْتَفعَ قَوْسُ قُزَح علاَمَةً شبيهةً
بِعُنُقِها.


■ ■ ■


كِتابٌ مفتوح

مِن الأزَلِ إلى الأبَدِ
الحَجَرُ حَجَرٌ في النَّهر
والجَبلِ
وعلى الطُّرُقات.

التُّفاحُ تُفاحٌ في الكِتاب والهِضاب
وعلى صُدور الجَميلاتِ

لَكنَّ الشاعِرَ
هُو مَن يَمنَحُ الأزلَ
صُورا سريعة التلاشي،
مِثلَ وَمِيض حَجَرٍ كريم،
مِثلَ قُبلة فَرَاشةٍ،
مِثل رَفَرفة طائر البَجَع

هو أيضا
مَن يَجْعلُ الأبَدَ
كِتابا مَفتوحا

الرِّيحُ تُقلِّبُ صَفحاتِه
والمَطرةُ تَمْحُو أسْطُرَهُ المُتلاشِيةَ
وأنا مَن يَقرَأُها
أشْرَبُ جُرعةٌ مِن جَرَّةِ الخَمرِ
المَدْفونةِ في البَحْرِ،
وأسَطِّرُ على كلِماتٍ
أَوْقَفَتْ نَفَسِي،
وجَعَلتْني أرفعُ وَجْهي إلى الأفُق البَعيدِ
لِأرى ما يَلْمعُ في الأزَلِ

وما يَتلاشى في الأبَدِ،
الحَجَرُ
والجَبلُ
والتُّفاحُ 
على صُدور الجَميلاتِ
إلى آخِر القصيدة.


* شاعر وناقد من المغرب

موقف
التحديثات الحية
 
المساهمون