اللافت أنّ النقاش النقدي، وغير النقدي (أي النقاش السياسي والأخلاقي واللاهوتي)، لا ينفكّ يحتكّ بالشخصيات الفنّية والروائية، المكتوبة والمرئية، حتى أنّ كثيراً منها بات موضوعَ اختلافات وخِلافات في وجهات النظر؛ وهي اختلافات كانت دائماً سِلمية، وقلّما تتسبّب في خوض الحروب. والطّريف أنّ الجميع يقول إنها مجرّد شخصيات من ورق، يمكن أن تُضاف إليها، اليوم، شخصيات من الأفلام السينمائية، أو التلفزيونية، ومع ذلك فإنّ دورة النقاش أو الحوار أو الصراع، حول ما الذي تمثّله تلك الشخصيات، لا تنتهي.
والأمر غريب، إذ بينما تجدُ كثيرين يتحدّثون عن لا جدوى الفنّ والأدب، وانعدام فاعلية الكلمة والصورة، أمام الرصاصة والقنبلة، ويحتمل أن يترجم رأيهم إلى موقف، فلا يقرأون الروايات والقصص، ولا يُشاهدون المسرحيات أو الأفلام والمسلسلات، ومع ذلك فإنهم يُمكن أن يطلبوا تعطيل مسلسل تلفزيوني، أو منع فيلم سينمائي، أو مصادرة رواية.
والظاهر أنهم لا يصدّقون أنفسهم، إذ إنّ حجم ما كُتب عن تأثير الأدب والفن في الوجدان البشري، وفي العقل البشري، وفي الحياة الإنسانية، يتجاوز من حيث الكم على الأقل، ما كُتب في التقليل من شأنهما أو ما كُتب ضدهما، أو للتحذير من تأثيرهما. ومن الواضح هنا، أنّ الخوف من فاعلية الخيال يقود أفكار التعطيل.
وعلى الرغم من معرفة الكثيرين بأن التطابق والمقارنة بين الشخصيات الأدبية أو الفنية، والشخصيات الواقعية، مستحيلان، وأنّ الإصرار على إجراء هذا التطابق، وهو يتكرّر، قد يتسبّب بأضرار نفسية وفكرية وأخلاقية ومادّية لأصحاب العلاقة من أدباء وفنانين، فإنهم يندفعون نحوه بلا رحمة. وهكذا يجد الكاتب والفنان نفسيهما محاصرَين دائماً، كما يجد الأدب والفن نفسيهما مُتّهمَين، والمشكلة المتكرّرة هي أنّ التهمة تأتي من مصدر واحد: الواقع، ومِن الذين يزعمون أنهم يمثّلونه، أو يدّعون أنهم يعرفونه أكثر من معرفة الكاتب أو الفنان.
يقولون بعدم أهمّية الخيال لكنهم يخشون تأثيره على الواقع
الأخطر في كلّ هذا هو أنّ كلّ المَطالب والتوضيحات التي يكتبها الأدباء والفنانون عن أنّ الفنّ والأدب أعمال تخيليّة، لا تُحاكي الواقع، بل تخلق واقعاً جديداً آخر موازياً تعيش فيه شخصيات ليس لها أيّ سجلّ في دوائر الأحوال الشخصية الرسمية في أيّ بلد؛ كلّ هذه الحمَلات تضيعُ بين أقلامِ جمهور متعلّم، ويدّعي أنه مؤمن باستقلالية الأدب والفن، أو يُفترَض نظرياً أنه مؤمن بذلك.
وهذه المرّة ينضمّ، إلى الجمهور السابق الذي يمثّل موقف السلطات المستبدّة بأشكالها، جمهورٌ يعميه الاستعراض والرغبة في الظهور على وسائل التواصل، يعسكر أفراده في حساباتهم التواصلية، ويطلقون النار والدخان منها على الأعمال الأدبية والفنية التي يريدون تطويعها وفق إراداتهم وحدهم.
والملاحظة التي يمكن الخشية منها، هي أنْ تكون مثل هذه المواقف، والتي تصدر عن أفراد وجماعات يُفترض أنها تدعو إلى الحرية، مؤشّراً على اتجاه المجتمع والثقافة نحو الانغلاق والمحافظة، من الناحية الفكرية والفنية (وهو يعكس بالضرورة انغلاقاً سياسياً، ورفضاً ضمنياً، أو علنياً للديمقراطية)، واتجاه الأفراد أنفسهم نحو فكرة الاستبداد بالرأي، واعتبار الذات الناقدة مرجعاً للأدب والواقع معاً.
* روائي من سورية