ينتقد الباحث والأكاديمي الإسباني مواقف الحكومات الغربية من حرب الإبادة في غزّة، بما فيها حكومة بلاده، التي يقول إنّها تُواصل بيع الأسلحة للاحتلال الإسرائيلي، رغم أنّها تنتقده أكثر من أيّة حكومة أُخرى في الشمال الأطلسي، مُضيفاً أنّ الاحتجاجات ستستمرّ للضغط من أجل إنهاء التواطؤ مع الاحتلال
■ أريد أن أبدأ معك من الأحداث الأخيرة في فلسطين. كيف تعيش العدوان الإسرائيلي على غزّة؟
- يعلمُ الشعب الفلسطيني، وكلَّ من كرّس حياته لفلسطين، أنّ النكبة لم تنته في عام 1948. الشعب الفلسطيني يعيش في نكبة مستمرّة حتى زوال الاحتلال الإسرائيلي. عادةً، كمؤرّخين لتاريخ القرن العشرين، نميل إلى الاعتقاد بأنّ أفظع الأمور قد حدثت وانتهت، ولكن ليس من الضروري أن يكون الأمر على هذا النحو، فالتاريخ ليس خطّاً صاعداً من التقدّم، وهذه الحلقة من الإبادة الجماعية المستمرّة هي الأكثر فظاعة. لكن، وعلى الرغم من صعوبة ما يحدث، من الضروري أكثر من أيّ وقت مضى العمل مع الشعب الفلسطيني. ولمّا كان الفلسطينيون مستمرّين في المقاومَة في أسوأ الظروف وأكبر الصعوبات، كيف سنتوقّف نحن عن القتال معهم على هذا الجانب من البحر الأبيض المتوسّط مع ظروف أفضل؟
لطالما قلتُ، وأكرّر، لقد حافظ الفلسطينيّون، في أقصى قدر من الشدائد، على أقصى قدر من الكرم، وعلى أعلى درجات الأمل والرغبة في الحياة. وهذا درس حياة عظيم لنا. الشعب الفلسطيني يُعلّمنا الحياة كلّ يوم، ولا يَسعُنا إلّا أن نشعر بالامتنان لأنّنا نتعلّم كلّ يومٍ منهم، ولأنّنا نشعر بالالتزام بقضيتهم. واليوم يجب أن يكون ذلك أكثر من أيّ وقت مضى.
■ ما رأيك في موقف بلادك، إسبانيا، إزاء ما يحدث، وهل تعتقد أنّ موقفها على مستوى ما يحدث من حرب إبادة جماعية في غزّة؟
- على الرغم من وجود خطابات داخل الحكومة الإسبانية تنتقد بقوّة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، أكثر من أيّ حكومة أُخرى في شمال الأطلسي، إلّا أنّ خزانة أمل الشعب الفلسطيني مليئة بالخطابات والكلمات والقرارات، ولكنها فارغة من الوقائع والأفعال.
داعمو المشروع الصهيوني خسروا بالدرجة الأُولى إنسانيتهم
يصادف هذا العام الذكرى السادسة والسبعين لإمبراطورية الكلمات، الإمبراطورية التي تحاول إخفاء التواطؤ العملي والفعّال على الأرض. تُواصل الدولة الإسبانية شراء وبيع الأسلحة لنظام الإبادة الجماعية الإسرائيلي، وتستمرّ في الحفاظ على العلاقات الأكاديمية والثقافية والدبلوماسية والاقتصادية والمؤسسية والعسكرية والسياسية. ولكن، وكما تطالب "حركة مقاطعة إسرائيل"، باعتبارها أكبر تحالف مجتمعي مدني مع الشعب الفلسطيني، لا بدّ من وضع حدّ لهذا التعاون والتواطؤ، والانتقال من الكلمات إلى الأفعال.
■ توصف مواقف الغرب من الإبادة في فلسطين بازدواجية المعايير مقارنة مع أوكرانيا، لكن الأحداث تبرز أنّ مواقف الحكومات الغربية ناتجة عن عنصرية وكراهية تجاه الفلسطينيّين، وإلّا فكيف يُسمح للاحتلال الإسرائيلي بكلّ هذه التجاوزات؟ في رأيك ما سبب هذا الانحطاط الغربي؟
- النفاق وازدواجية المعايير الأميركية والأوروبية تجاه فلسطين هما من أعظم الفضائح الأخلاقية في عصرنا. منذ شباط/ فبراير 2022، يستشهد ما معدّله 0.7 طفل في اليوم الواحد في أوكرانيا. وبدءاً من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، يستشهد ما معدّله 136 طفلًا يومياً في قطاع غزّة. أوكرانيا تتلقّى كلّ الدعم من شمال الأطلسي، في حين لا تتلقّى فلسطين أيّ دعم. ليس هذا فحسب، بل يتعيّن على فلسطين أن تُثبت أن من يحظى بالدعم هو النظام الاستعماري الذي يحاول إبادتها. وبطبيعة الحال، تقوم ركائز النظام العالمي على هذا تحديداً، أي العنصرية، حيث يتلقّى البيض على الأراضي الأوروبية كلّ الاهتمام والتفهّم، في حين يحدث العكس مع غيرهم. وقد تحدّث مفكّرون كبار مناهضون للاستعمار، مثل إيمي سيزير وفرانز فانون، في منتصف القرن الماضي، عن هذا الأمر. عموماً، تتعرّض الهيمنة المعرفية المركزية الشمالية ومونولوجها الطوطمي للمساءلة بشكل متزايد، وتحتلّ فلسطين مركز الصدارة في هذه المساءلة.
■ رأينا كيف انحاز مثقّفون غربيّون إلى حرب الإبادة الجماعية ودعموا الاحتلال الإسرائيلي، بينما قرّر آخرون التزام الصمت. إلامَ تعود هذه الظاهرة؟
- عندما أواجه مثل هذه الأسئلة، أتذكّر دائماً إدوارد سعيد، وخاصّة كتابه "الإنسانية والنقد الديمقراطي". سعيد، والعديد من الآخرين، يُعلّموننا كيفية نسج العمل الأكاديمي أو الفكري والالتزام السياسي. لا يعني هذا أنّ العمل الفكري والالتزام السياسي غير متوافقين أو منفصلين، بل إنّ العمل الفكري هو التزام بالدرجة الأُولى: التزام بالسلطة القائمة أو ضدّها.
أمّا بالنسبة إلى أولئك الذين دعموا من يطبّقون المشروع الاستعماري الصهيوني الإسرائيلي، فقد خسروا بالدرجة الأُولى إنسانيتهم، حيث حاولوا تجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، وجلُّ ما حصلوا عليه هو أنّهم جرّدوا أنفسهم من الإنسانية، وكان ذلك من خلال الدفاع علناً عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين. أمّا أولئك الذين ظلّوا صامتين، واعتبروا أنفسهم "محايدين" أو "رماديّين"، فإنّ صمتهم يعني الوقوف إلى جانب الإبادة الجماعية. وأعتقد أن معظم هؤلاء لا يريدون الهروب من السجن المعرفي المركزي، أو أنّهم ببساطة لا يريدون التخلّي عن الامتيازات التي يمنحها البيض و"جيوسياسة المعرفة" و"استعمار المعرفة" لهم.
مستمرّون في التعبئة حتى ينتهي تواطؤ إسبانيا مع الاحتلال
يحضرني في هذا الإطار انتقاد الكاتبة الجزائرية حورية بوثلجة الممتاز لـ جان بول سارتر، الذي لم ينفصل عن الصهيونية، وبالتالي عن الحلقة الأخيرة التي قيّدته بالبياض. كذلك تحضرني مناقشتها لكتاب "باستثناء فلسطين" والظاهرة التي يطلَق عليها باللغة الإنكليزية "تحرّريون إلّا من أجل فلسطين"؛ وهي ظاهرة فظيعة بشكل خاص في أماكن مثل الولايات المتّحدة أو ألمانيا، حيث تأخذ العنصرية منحىً معادياً للإسلام والعرب والفلسطينيّين بشكل عام، عن طريق الرقابة والقمع.
لحسن الحظ، هناك الآلاف من المناصرين للقضية الفلسطينية والتعبئة مستمرّة من أجل دعم الشعب الفلسطيني. كذلك هناك تمرّد يهودي أميركي مناهض للصهيونية، وهذا بحدّ ذاته أمر جديد ومهمّ، ويجب أن نأخذه بعين الاعتبار، لأنّه الأوّل من نوعه.
■ يبدو أنّ الذاكرة الأوروبية، بدلاً من تصحيح أخطاء الماضي والحروب التي أنتجتها، تميل إلى تأكيدها وتعزيزها، من خلال سياساتها الاقتصادية والسياسية والثقافية (في العراق وليبيا وسورية وفلسطين).. ما رأيك في هذا النهج الأوروبي؟
- الذاكرة الجماعية الأوروبية والذاكرة العامّة معقّدة ومتعدّدة الأوجه وقيد الإنشاء المستمرّ، لأنّ فيها ظواهر غير متجانسة ولاخطّية. الذاكرة، عموماً، هي ساحة معركة غير مكتملة، فالذاكرة الجماعية، مثلاً، التي تطالب بها الثقافات السياسية اليمينية المتطرّفة ليست هي نفس ذاكرة الحركات الاجتماعية الديمقراطية. لا ينطبق هذا الأمر على ألمانيا، إذ يمكنك، على سبيل المثال، أن تجد يساريّين مؤيّدين للصهيونية، أمّا في جنوب أوروبا، فستجد معظم اليساريّين مؤيّدين بشكل كامل لفلسطين. ولكن الغريب في الأمر أنّ العديد من الجماعات اليمينية المتطرّفة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين، والتي يحمل حمضها النووي ما فعلته النازية باليهود، تدعم الآن الشيء نفسه الذي يفعله الصهاينة مع الفلسطينيّين. كما أنّ خطابها قائم على كراهية الإسلام.
لعلّ هذه الإبادة الجماعية بداية نهاية استعمار فلسطين
وأيّاً كان الأمر، فإنّ إحدى المهام الأكثر إلحاحاً في الذاكرة الأوروبية هي إنهاء الاستعمار. ليس فقط بسبب قضية الذاكرة العامّة والتماثيل - كما رأينا في عام 2020 مع الاحتجاجات التي أعقبت مقتل جورج فلويد - ولكن أيضاً بسبب المناهج التعليمية، التي تستمرّ في طرد الناس والأقاليم من الجنوب العالمي، بسبب وسائل الإعلام وسياسات الدول نفسها، التي تمارس العنصرية المؤسّسية وتتجنّب بشكل عام تناوُل النظام العنصري الاستعماري، وهو التفسير الرئيسي لهيمنة شمال الأطلسي على العالم اليوم. علاوة على ذلك، لا تزال الديمقراطيات الأوروبية عرضة للاختطاف من قبل القوى الرأسمالية، التي تستخدم الهيئات والأراضي الفلسطينية، وخاصّة في جوانبها التكنولوجية والعسكرية، كأرضية اختبار أو مختبر لها. وقد صعدت العديد من هذه الشركات في سوق الأوراق المالية وتضاعفت أرباحها منذ بدء الإبادة الجماعية في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. وتتمتّع هذه الشركات العابرة للحدود الوطنية بنفوذ سياسي كبير.
إنّ المشروع الاستعماري الصهيوني الإسرائيلي يقوم على توفير الأمن والاستقرار لمستوطنيه واستثماراتهم الرأسمالية. ولهذا السبب، من المهمّ للغاية إنهاء هذا الحبل السرّي الرأسمالي الاستعماري، كما تدعو المقاطعة. ولكن، على الرغم من كلّ آلام الفلسطينيّين وتضحياتهم ومعاناتهم التي لا يمكن تصوّرها، فإنّ "إسرائيل" أصبحت غير آمنة وغير مستقرّة وغير مستدامة على نحو متزايد. وعلى المدى المتوسّط والطويل، قد تكون هذه الإبادة الجماعية بداية نهاية كيان الاحتلال الاستعماري.
■ قلتَ لي إنك تعمل على حملة ستطلقها في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير الجاري، هل يمكنك أن تخبرنا شيئاً عنها؟
- بعد مسيرات ومظاهرات محلّية لا تعدُّ ولا تُحصى تضامناً مع فلسطين، جرت في العشرين من كانون الثاني/ يناير 2024 أكبر تعبئة منسَّقة في التاريخ الإسباني لدعم الشعب الفلسطيني. وقد خرج إلى الشوارع ما يقرب من نصف مليون شخص في مئة مدينة بتنسيق من "شبكة التضامن ضدّ احتلال فلسطين" (RESCOP)؛ المنسّق الإسباني للتضامن مع الشعب الفلسطيني، والذي يشارك في الحملة العالمية لمقاطعة "إسرائيل"؛ حتَّى إن رئيس الحكومة بيدرو سانشيز اضطرّ للتعليق على هذه المظاهرات في اليوم التالي. لكنّ الحكومة الإسبانية لا تزال متواطئة مع النظام الاستعماري الإسرائيلي، وتستمرّ في شراء وبيع الأسلحة له وفي الحفاظ على العلاقات معه. لذلك لا يمكننا التوقّف.
سيكون الخامس والعشرون من الشهر الجاري هو ثاني يوم كبير للتعبئة. ونخطّط لمواصلة الاحتجاجات المنسّقة وواسعة النطاق حتى ينتهي التواطؤ الإسباني مع دولة الاحتلال، وحتى تتوقّف "إسرائيل" عن حرب الإبادة الجماعية.
■ كمواطن غربي، ماذا تقول للشعب الفلسطيني في ظلّ ما يتعرّض له؟
- في خضم الرعب، أقول لهم: أشكركم لأنكّم تعلّموننا الحياة كلّ يوم. مستمرّون في النضال معكم. وعلى الرغم ممّا يفعله المحتلّون، على الرغم مما يفعله السجّانون، سنبقى معكم.
بطاقة
Jorge Ramos Tolosa باحثٌ وأكاديمي إسباني، حاصل على دكتوراه في التاريخ المُعاصر، ويعمل حالياً أستاذاً في "جامعة فالنسيا". يُعدّ من أبرز الأصوات المدافعة عن فلسطين في إسبانيا خلال العدوان الإسرائيلي الحالي على غزّة. له العديد من الكتب، من أبرزها: "فلسطين: القصّة الجوهرية" (2020)، و"تاريخ مُعاصر للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي" (2020)، و"فلسطين في النظريات الإبستمولوجية الجنوبية" (2022).