خالد خليفة.. عجالة الموت السوري

01 أكتوبر 2023
بقيت حلب المجال الأثير الذي تحرّك فيه، رغم استقراره في دمشق
+ الخط -

تُقرأ تجربة خالد خليفة، (1964 - 2023)، الذي رحل عن عالمنا مساء أمس السبت، على أكثر من مستوى؛ بدءاً من أدبه نفسه، الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل أوّلُها النسيج الشعري اللغوي في "حارس الخديعة" (1993)؛ أُولى رواياته، والعالَم الشاعري في "دفاتر القرباط" (2000)، وهو عالَم شاعري لأنَّ إحدى الشخصيات أرادت أن ترسم "الله". وانتهت تجربته إلى صياغة تآلف سردي من المادّة التاريخية كما في "لم يُصلّ عليهم أحد" (2019)، إذ قرأ، عبر الاستدلال التاريخي وبتآلف صنعه بنفسه، علاقات البشر والجماعات في الحاضر، ومروراً بما أعطى مشروعه الروائي تميّزه وحضوره، وهو تفكيك العنف الذي مورس على المجتمع السوري في الثمانينيات، كما في روايته الشهيرة "مديح الكراهية" (2006) وروايته التي حازت جائزة نجيب محفوظ "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"(2013)، والرواية التي كتبها عن الحدث السوري عينه "الموت عمل شاقّ" (2016).

إذاً، تتوزّع أعمال خالد على هذه المعالجات الثلاث التي تُظهر تمايزاً أسلوبياً بين مرحلة وأُخرى. وهو ينتمي إلى جيل تلى، بالضبط، جيل الواقعية الاشتراكية. وأدبه يعدُّ خلاصة لدروس مرحلةٍ سبقته. بهذا المعنى تُقرأ استمرارية تجربته على أنّها التفاتٌ إلى بُعدٍ لا يحمل ثقل الأيديولوجيا، ولا يحمل ثقل الرسالة بمعناها الوعظي، من غير أن يكون أدبه بلا رسالة.

بالطبع، إنَّ لديه مقولاته كروائي، لكنّها مقولات تتنوّع بين عملٍ وآخر، وهي في عمومها مقولات تعني الشخصية التي يكتبها، والتي يهتمّ غالباً في نسج عالمها، ليأتي منسجماً مع اضطراباتها، أي، أنّ روايات خليفة تبني ذاتها بذاتها، كما لو أنَّها واقع مفارقٌ عن الواقع، أمرٌ يظهر بشكلٍ حادّ في روايته الأخيرة "لم يُصلّ عليهم أحد"، وهي رواية بدا أنّ الكاتب أرادها أن تظهر بصورة تفارق الرواية التاريخية. أقصد، إنْ قابل بها القارئ تاريخ الجماعات في بلدٍ مثل سورية مع المادّة التي كتبها خليفة، لوقَع على إشكالات عديدة. لكن كما لو أنَّ خليفة أراد أن يبني عالماً روائياً ومن ثمّ يطلقه إلى الواقع، أو إلى الآخر... لسنا نعرف. ما نعرفه أنَّ له صوته الخاص في الرواية السورية، ولأدبه خصوصية، تأتي من خصوصية حلب في وجدانه. وتأتي من خصوصية تجربته الإنسانية نفسها التي أظهرت لحظةُ موته أنَّه كان قريباً من الجميع، ومحبّاً للجميع.

مستوى آخر، صنع بريق اسم خالد خليفة ويصلح لقراءة جانب من تجربته، وهي تمثيله في العقد الأخير، للأدب السوري في اللغات الأُخرى - وهذا بحثٌ عسير خوضه في لحظة كهذه - لكن المؤكَّد، أنَّ أدبه كان إحدى الإشارات التي قَرأ منها الآخر مأساةً تُدعى سورية... مأساة أناسٍ اعتقدوا أنفسهم أنَّهم أُصيبوا بالخرس، أنّهم يولدون عمياناً - مآل إحدى شخصيات "دفاتر القرباط" - وذلك من جرَّاء سنوات الصمت الطويلة، ثمَّ في لحظة ما، تشبه نبوغ الوعي، تحدّث أولئك القوم الخرس، وكتبوا رواياتٍ عن آلامهم.

أظهرت لحظةُ رحيله أنَّه كان قريباً من الجميع، ومحبّاً للجميع

تُمثّل تجربته، في جانب منها، تجربة الكاتب الذي لا يجد كتبَه في المدن التي أحبّها وعاش فيها. فالعديد من كُتبه غير متاحة في بلده. فيما هو نفسه موجود، يعيش ويحتفل أو يحزن مع أصدقائه.

كذلك له إسهاماته الفارقة في الدراما التلفزيونية، وهو سيناريست دفعته رداءة شرط الإنتاج العامّ في سورية إلى الاعتكاف عن الكتابة التلفزيونية، إذ إنّه ينجز في الدراما أعمالاً تشبه المُشاهد، تشبه حياته وعالمه. وربما ما بقي من دراسته للحقوق (وهو خرّيج جامعة حلب عام 1988) هو مطالباته الدائمة بإحداث نقابة لكُتَّاب السيناريو، تحفظ لهم حقوقهم.

أشهر أعماله "سيرة آل الجلالي" (2000) الذي قصّ حكاية عائلة حلبية، وعبرها حكاية الأسرة السورية ككلّ. وله أيضاً عمل استلهم به سيرة الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954 - 1982)، وهو مسلسل "زمن الخوف" (2007)، وكتب "هدوء نسبي" (2009) عن سقوط بغداد. لكن بقيت حلب المجال الأثير الذي تحرّك فيه خالد خليفة، على الرغم من استقراره في دمشق سنوات طويلة من حياته، وفي السنوات الأخيرة كان مستقرّاً في اللاذقية، وكان يكتب عنها. في تجربته التي تعكس جانباً من شخصيته نفسها، بدا أنَّ خليفة يكتب عن مدن أحبّها، ويعيش في مدنٍ أحبّها. آخر إصداراته "نسر على الطاولة المجاورة" ("هاشيت أنطوان"، 2022) يَذكر فيه جانباً من شهاداته ككاتب. وبحسب ما تسرَّب من أخبار قد يكون القارئ على موعد مع رواية جديدة لخالد خليفة العام المقبل، مع ناشره "هاشيت أنطوان".

تدفع عجالة موت خالد خليفة إلى التفكير بالموت نفسه، بالموت السوري بصورة أدقّ. فعجالة موته ومباغتته تجعلنا نفكّر بتوسيع مقولة الراحل ممدوح عدوان (1944 - 2004) عن أنَّ في حياتنا شيئاً يُجنّن، إلى مجال أكثر حسماً وحديَّة في مصائرنا، خصوصاً في مصائر الأشخاص الذين يحملون همّاً عامّاً. فالواضح من موت خالد خليفة أنَّ في حياتنا شيئاً يَقتل، شيئاً يجعل الموت أمراً داخلياً، أشبه بالمشيئة، أمراً تستدعيه النفس، من جرَّاء عنف الخارج، وتعقيد صورته ومآلاته. كما لو أنَّ مقولة المسرحي السوري فواز الساجر (1948 - 1988) عن الضيق تحتاج أيضاً إلى أفق جديد بمفردات اليوم السورية. أفق للعبارة التي تنادي إلى أن نفتح النوافذ والأبواب كي لا يقتلنا الضيق، لكن الضيق أصبح داخل أنفاسنا. الضيق يحاصرنا ويقتلنا من الداخل. وخبر الموت الصاعق للروائي السوري المليء بالطاقة والحياة والمحبّة، الكاتب الذي نراه متنقّلاً بين مدن وعواصم العالم وعائداً بتواتر إلى دمشق وإلى اللاذقية، ما هو إلّا ضيق بالعيش نفسه. هذا تأويل لحدث الموت، لأنَّه تبدَّى لنا أنَّه حدثٌ خرج من إحدى روايات خالد خليفة.


* روائي من سورية
 

موقف
التحديثات الحية
 
المساهمون