استنفر خطاب ماكرون في تأبين صاموئيل باتي، وقبيل الجريمة، ردوداً عارمة من الوسط العربي والإسلامي، ردوداً لم يكن لها مثيل اتجاه صفقة القرن أو التطبيعات المتوالية للإمارات والبحرين وبعدهما السودان. ذلك قد يعني أنّ الصبغة الدينية تفوز على الصبغة القومية، أنَّ الإسلام الآن هو القضية في مواجهة الغرب، ولم تعد فلسطين هي القضية، حتى عند الحكومات العربية وشعوبها.
لا نعرف بالضبط ماذا يغلب على شواغل الجيل الجديد. لكنّنا نفهم أن الديني والقُطري أيضاً يتصدّرانها في ما يتضاءل الهمُّ القومي. لكن حين نعلم أنَّ المشتبَه به في الاعتداء على "شارلي إبدو" باكستاني، في حين أن قاتل صاموئيل باتي وقاطع رأسه شيشاني، الاثنان ليسا من الأقلية المغاربية ذات الأصل العربي التي تبلغ قرابة ستّة ملايين في فرنسا، فذلك يؤشّر إلى أنَّ الإسلام العالمي هو الآن في الصدارة، وهو في تنامٍ يجعله يسبق الإسلام العربي أو يغدو موجةً عالمية للإسلام، قد تعقب تطوُّرات وموازين لا يمكن التنبّؤ بها. بالطبع، ليست هذه بادرة جديدة وتنظيم "داعش" سبق إلى ضمّ المسلمين من كلّ الأطراف، مع أن الثقل العربي كان لا يزال بادياً فيه. كان الأمر نفسُه، وإن بدرجة أقلّ في القاعدة. يمكننا لذلك أمام الاستنفار العارم الإسلامي الذي شمل ردوداً إسلامية، تركية في رأسها، أن نتكلّم عن موجة، أو عن حملة، إسلامية متصاعدة.
لن نناقش ماكرون في ما لمّح إليه قُبيل مقتل باتي وبعده. الواضح أنَّ الرجل ليس أي ملاحظ أو مناظر، إنه رئيس جمهورية فرنسا، ولكلامه أكثر من وزن شخصي. إنه يتكلّم من موقع الرئاسة وكلامه لذلك قد يبدو رسمياً، قد يكون لذلك بياناً رئاسياً وخطاباً للجمهورية. حين يقول ماكرون إن الإسلام في أزمة فإن هذا، قد يقوله مسلم، وقد يقوله صحافي أو كاتب فرنسي، وإذا قيل على هذا النحو، فهو قابل للبحث، وقد يصل إلى استنتاجات شتى. لكن حين يكون دعوى الرئيس، فإننا نتساءل إلى أيّ حد يستتبع ذلك سياسات وإجراءات من أي نوع.
إنهم فرنسيون وينبغي ألّا يكونوا عند الدولة مسلمين أوّلاً
حين يتكلّم الرئيس عن انفصالية إسلامية وعن نزوع إلى إقامة كيان منفصل عن الجمهورية أو داخلها، فإنَّ كلامه يتوجّه إلى ستّة ملايين من مواطنيه، يجعلهم بكلامه هذا خارج هذه المواطنية. إنهم فرنسيون وينبغي أن يكونوا كذلك بالنسبة إليه، وألّا يكونوا عنده أو عند الدولة مسلمين أوّلاً، أي مختلفين وخوارج. من بين هذه الستّة ملايين لم تصدُر دعوى انفصالية، وإذا كان الانفصال، في نظر ماكرون، قائماً في العقيدة نفسها، فهذا أدهى؛ إذ حين يقول إنّ الإسلام في أزمة، نفهم بحسن نية أنه لا يعني العقيدة، ولكن تمثُّلاتها الاجتماعية والتاريخية والسياسية. أمّا أن يكون الانفصال في العقيدة، فهذا مبحث لا يجوز طرحه من موقع الرئاسة، ولا يجوز إطلاقه على كتلة الملايين الستّة من المواطنين.
ماكرون فرنسي وفرنسا الدولة انفصلت عن الدين منذ الثورة الفرنسية، وحين يتكلّم عن أي دين من خارجه نفهمه، وحين يرفض محاولة تديين الدولة أو تديين النظام، نعرف من أين ينبع كلامه وإلى أين يتّجه. قد يقول قائل سواه إنّ لا سبيل في الجمهورية إلى منع كاريكاتيرات كتلك التي نشرتها "شارلي إبدو"؛ إذ ذاك نفهم أنّ وراء هذا الكلام تراث من نقد الدين وحتى ازدرائه.
من حقّه ألّا يتعرّض للكاريكاتيرات، لكن ليس من حقّه تبنّيها
لن نذكر هنا المفكّرين الذين عادوا المسيحية، فالتراث الأوروبي حافل بهم. ولا نذكر الفنّانين والأدباء الذين هزأوا من المسيحيّين وسخروا من المسيح ذاته، فهم لا يُحصون. لكن هؤلاء لم يكونوا رؤساء جمهوريات، ولم يكن كلامهم إجراءً رسمياً أو موقفاً للسلطة. فليرَ ماكرون في كاريكاتيرات "شارلي إبدو" أمراً مشيناً. هذا رأيه، وهو بالتأكيد رأي ملايين من الفرنسيّين، لكن هؤلاء ليسوا رؤساء الجمهورية. من حقّ الرئيس ألّا يتعرّض لهذه الكاريكاتيرات، لكن ليس من حقّه أن يتبنّاها، وأن يأمر بالاستمرار فيها، فهذا الكلام هو أيضاً دمغ للسلطة التي ينبغي، تبعاً لقانونها، أن تبقى بعيداً عن هذه المناظرة. لا تمنع شيئاً لكنها لا تتبنّى شيئاً، ولا تُحوّل رأياً من آراء المتخاصمين إلى موقف لها، وإلى رأيها الخاص.
مهما يكن من هذه المناظرة، فإن الذي عاناه المسلمون في أطراف إسلامية شتى من التطرُّف الإسلامي، وما وقع عليهم من عنفه وشطحه، وما عانته المجتمعات التي تحكّم فيها هذا التطرُّف من مسلمين وغيرهم، من أمور ليس أقلُّها القتل والسبي، ما كابده المسلمون وكابدته هذه المجتمعات هائل فظيع، وقد لا يكون القتل وقطع الرؤوس سوى نموذج منه ومثل عليه.
* شاعر وروائي من لبنان