في مقالة للكاتبة والقاصة الأميركية فلانيري أوكونر (1925 - 1964)، ضمن مجموعة مقالات تحمل عنوان "لغز وأساليب" ورد وصفٌ مقتضب للكيفية التي تعمل بها الرواية كما يلي: "عن طريق الحواس تعمل الرواية، وأحد الأسباب التي تجعل الناس يجدون صعوبة في كتابة القصص هو أنهم ينسون كم يتطلب الإقناع بوساطة الحواس من وقت وصبر...". وتنقل الكاتبة البريطانية ذات الأصل الجامايكي لورا فش (مولودة في عام 1964) هذا الشاهد/الوصف إلى مقالة لها حملت عنوان "سمكة خارج الماء" وتضيف: "إن تعامل الرواية مع ما يمكن رؤيته، وسماعه، وشمّه، ولمسه، هو أول خصائصها وأشدها وضوحاً".
وجاء توظيف لورا فش لهذا الشاهد لأنّها معنية بالتفكير في معنى المكان والانتماءِ منذ اكتشفت أنّ إحساسها بمكان ميلادها وانتمائها إحساسٌ باهت، قبل أن تعرف أنّ والديها ولدا في غيانا وجامايكا، فتدرك سر هذا الإحساس، وتركز عملها الروائي على طريقة مماثلة لتلك التي وصفتها أوكونر، أي أنها كما تقول، تبث الحياة في شخصيات أعمالها الروائية باستحضار أمزجة ومشاعر بوساطة حواس سمعية وبصرية وذوقية ولمسية... إلخ، لخلق إحساس بالمكان.
وتصف لورا فش كيفية مقاربتها لإبداع إحساس بالمكان في رواياتها بالقول إن روايتها الثانية، "موسيقى غريبة"، لم تكن نتاج بحث تاريخي فقط، بل نتاج زيارة إلى بلد لم تكن فيه من قبل مطلقاً، مثلما كان الأمر مع روايتها الأولى "طيران طيور التم السوداء" التي تقع أحداثها في أستراليا. في روايتها الثانية، كانت مواجهتها الأولى لبيت تاريخي معين ودخوله بالنسبة لها أشبه بعودة في الزمن إلى الوراء، وتساءلت هل يمكن أن يحظى الإنسان بإحساس وطيد بالمكان بوساطة مواد بصرية؟ صور أو أفلام؟ الإجابة... نعم، ولكن لا شيء يضاهي تجربة أن يكون المرءُ هناك بين الناس، ويشاهد الطريقة التي ينعكس فيها الضوء، أو عمق البؤس أو الغضب أو الحزن، في عيونهم.
تعامُل الرواية مع ما يمكن رؤيته وسماعه من أبرز خصائصها
هنا تشديدٌ على الحواس أيضاً، ليس حاسة البصر فقط، بل والسمع والشم والتذوق، وكأن الرواية تودّ أن تنطق بكامل عناصرها، لا بالعنصر الكلامي فقط، بل وبما هو ماثل وشاخص حتى إن لم يصدر صوتاً أو حركة. يذكر هذا بمقولة عجيبة للفيلسوف الألماني فريدريك جورج هيغل (1770-1831) نصها: "ينظر التمثالُ الأعمى بجميع جسده". جاءت هذه المقولة في ختام مقارنته بين التمثال ذي العينين، والتمثال ذي المحاجر الخاوية الذي ليس له عينان ينظر بهما، فتبدو الحياة وكأنها تفيض على جوارح هذا الأخير.
السكون، حتى مع وجود حركة ما أحياناً، يكاد يكون هو منتهى الجمال، وليس هناك ما يؤكد هذا النوع من السكون الذي يفيض بالحياة غير الصورة، إلى الدرجة التي دفعت الكاتب الفرنسي أناتول فرانس (1844-1924) إلى القول: "ليس على الصغار أن يقرأوا الكتب، هناك أشياء جديرة بأن يشاهدوها ولم يسبق لهم أن رأوها؛ الأنهار والجبال والبحيرات، والمدن والأرياف، والبحر وسفائنه، والسماء وكواكبها"، كأنه يدعو إلى تشغيل الحواس كلها وتعطيل مَلكة الكلام عن الأشياء.
من هنا نفهم تشديد أوكونر على أن الرواية تعمل عن طريق الحواس، ويحضر المكان حسب لورا فش، عن طريق الحواس أيضاً، ويفيض التمثال ذو المحاجر الخاوية بحياة تشمل كل أعضائه، وأن على الصغار، والكبار أيضاً أن ينظروا إلى عناصر الكون من حولهم، لا أن يتحوّلوا إلى ورق وحبر، ولكن هل الإحساس بالمكان غاية بحد ذاته؟
ثمة شيء ينقص هذا التوصيف للكيفية التي تعمل بها الرواية، وكيف يجسّد السكونُ الجميلَ وهو يستبعد حتى الأصوات. صحيح أننا نحتاج إلى عناصر بصرية وذوقية وسمعية وحسية حين نذهب إلى تقديم سرد فني لا مجرد سلسلة أخبار، ولكن ثمة عنصر في الرواية قد لا يكون مشعوراً به حتى الآن على صعيد فهم الفن الروائي؛ عنصر الأدوار التي يمثلها الروائي وهو يمضي في سرده، نعني فعل المشاركة الإنسانية.
يتضمّن هذا العنصر بالضرورة الحضور في المكان، ولو تخيلاً، وليس إجراء بحث تاريخي فقط، ويتضمن، وهذا هو الأكثر أهمية، قدرة على التقمّص، سواء كان تقمّص الشخصيات، أو الأشجار، والبحيرات، والأنهار، والجبال... وبقية مظاهر الطبيعة، وقدرة التقمص تعني فيما تعنيه، تشغيل الحواس بكامل طاقتها. علينا، كما يقول الياباني شاعر الهايكو ماتسو باشو (1644- 1694)، حين ننظر كشعراء إلى شجرة صنوبر أن ندخل فيها، أي أن نتحوّل إلى شجرة صنوبر إن أردنا أن نكتب قصيدة هايكو موضوعها هذه الشجرة. التمثيل، والتقمص هو التجلي الأمثل له، يعني أن الروائي وهو يكتب، يكون كمن يقوم بأدوار شخصيات روايته، الإنسانية وغير الإنسانية. فحين يتناول رجلاً يكون في لحظة من اللحظات هذا الرجل، والأمر نفسه مع كل شخصية أخرى، وحين يتحدّث عن نهر يكون هو النهر ذاته.. وهكذا.
على الكاتب أن ينهض بكلّ الأدوار، من الشخصيات إلى الأشياء
في هذا الفعل تتعدد المشاهد والشخصيات، والأزمنة والأمكنة، والممثل واحد، وعليه أن ينهض بكل الأدوار إن أراد أن يكتب عملاً فنياً حقاً، لا تقريراً صحافياً، وهو في كل ذلك يقظ ومنتبه بكامل حواسه لينقل إلى مشاهد متخيل، أو قارئ، ليس صوراً فقط، بل الحياة النابضة بكل شيء، بدءاً من ورقة شجرة، مروراً بحفيف نسيم، وصولاً إلى أناس بعضهم حيٌّ، وبعضهم عائدٌ إلى الحياة، وحتى حين يقتضي دورٌ من الأدوار تقمص حالة موت، أو فناء، أو تلاشي الأشياء والكائنات، سيتقدم الكاتب بلا تردّد، فالحياة والموت وجهان لعملة واحدة، ويمثل دور الربيعَ الآفل، والبحّار الغريق، والمرأة القتيلة، والصبي الضائع... إلى آخر ما هنالك من مواقف.
هنا لا يَمْثلُ إحساس بالمكان فقط، بل إحساس بالوجود بكامل امتلائه، وهذه هي غاية الرواية التي تعمل عن طريق الحواس مجتمعة، الرواية التي تحدثت عنها فلانيري أوكونر، الرواية التي هي ليست نتاج بحث في التاريخ فقط، بل عودة في الزمن إلى الماضي إن اقتضى الأمر عودة، أو رحلة، ومواجهة أمكنة نراها لأول مرة، وأناس لم يسبق لنا معرفة أنهم على هذا الكوكب، كما في رواية لورا فش. ولكن ما شأن تمثال هيغل الذي تفيض كلُّ جوارحه بالحياة حين تكون محاجره خاوية، وتُختزل الحياة في جزء منه إن منحه الرسام عينين يبصر بهما؟ هو على علاقة بلغة الحواس أيضاً، بسكونِ حُسْنٍ "تناهى في حركات" حسناء كما وصفه أبو الطيب المتنبي (915- 965). أي أن حالة التمثال الضرير تكشف عن سيطرة الروح، وإفلاتها من الحيز، تماماً كما تسيطر وتهيمن الصورة حين يتوقف الكلام.
الروائي يتجاوز المحسوسات، يتجاوز مجرد النظر، على الرغم من أنها وسائل إدراكه، ويدعها تتراسل كما لو أن إحداها تحل محل الأخرى، تماماً كما يحدث التراسل والتبادل بين الممثل ومن يؤدي أدوارهم، أو ما يؤدي أدوارها من أشياء، على مسرحه الخيالي، ولا أعتقد أن المقصود بالإقناع عن طريق الحواس، كما تقول أوكونر، هو إرغام المشاهد، أو القارئ على الإحساس كما نحس، أو الشعور كما نشعر، بل أن ينظر ويرى، بالمعنى الذي ذهب إليه أناتول فرانس، وهو ينصح الصغار قبل الكبار، بالالتفات إلى ما هو جدير بالرؤية، أي إقامة صلة حية بالوجود.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين