معرض رولا الحسين "حياتي العادية"، الذي اختُتم أخيراً في صالة "أجيال" ببيروت، يُشعرنا بأننا أمام البدايات. اللوحات حاشدة على جدران المعرض، بحيث ترتصّ فوق وإلى جانب بعضها بعضاً، وتتوزّع بالغزارة نفسها على كلّ الجدران، كأن الرسّامة اللبنانية تُخرج كل ما لديها من حقبة كاملة.
ليس هذا وحده اللافت؛ فموضوعات اللوحات هي بين كرّاس، وأُصُص زرع، وكؤوس، وامرأة تلامس بإصبعها فمَها من بعيد، وموزة، وفنجان قهوة، وفردة حذاء وشجرة، وكفّ مبسوطة، وقطَع ثياب -قمصان في الأغلب- وكلب جالس، وأرائك، وجسد عارٍ من الوراء، وعاريات في أوضاع مختلفة، ويد على قدم، وأقدام فحسب.
أسرد ذلك لأبيّن أننا نشاهد أغراضاً، وأجزاءً، ومفردات، وأوضاعاً فحسب، في معرض رولا الحسين. أشياء موجودة بمفردها في لوحات لا تزيد على أن تكون عرضاً لها، في ما يشبه أن يكون رصفاً وإعلاناً وتعداداً. الأشياء والأجزاء في معرض الحسين تستقلّ بنفسها؛ إنها وحدها وليس خلفها أو جانبها أي شيء. نحن لا نشاهد مناظر، بل مجرّد أغراض تمتُّ في معظمها إلى البيت، تُلازمها هذه الصفة البيتية.
أشياؤها ليست مرئية في زمن ومكان محدّدين، بل وجودها مطلق
نحن هنا أمام العادي والمستعمَل والجزئي، حتى العاريات وحتى الأجساد التي تتجزّأ أحياناً إلى أقدام وأيدٍ فحسب، هي أيضاً بهذه الطلّة البيتية. هذه الكراسي تنتقل إلى الفن لأننا أردناها فناً، وكذلك الزهرة، وكذلك الفنجان، وكذلك اليد والقدم، والعارية البادية بنصف جسدها، من على المقعد الذي يُخفي نصفها الآخر. أشياء صادرة كلّها من العادي، وانتقلت بهذه الصفة إلى اللوحة. إنها في اللوحة لأن هناك مَن جعلها لوحةً، وجعلها فنّاً.
هكذا، لا نبعد عن أن نفكّر بالبوب آرت، وربما نفكّر بالإعلان أو الرسوم الصحافية. ليست الموضوعات وحدها هي التي تدعونا إلى ذلك؛ هناك أيضاً الأسلوب والفن نفسه. رسوم الحسين -وهي رسوم بالدرجة الأولى- مرسومة بالخطّ أولاً. إنها تخطيطات أو كروكيات. لا يهم الفنانة إلّا أن ترسم وتخطّط بالقلم أو ما يشبهه، الكرسي والكأس والزهرة والقدم واليد. هكذا تبدو اللوحة تَخطيطاً فحسب، إنها رسمة وربما إعلان وربما لقطة ولمحة. في هذا تتحول الأشياء إلى فن، بوصفه استنساخاً ونقلاً ومبادرة أوّلية للتعريف بالأشياء.
قد يفكّر واحدٌ أمام ذلك كله برسوم الأطفال؛ ومع أنني أفضّل الرسوم الصحافية كمرجع لها، فإننا لا نزال نشعر بطفولية اللوحة. الأمر لا يقف عند الرسم والخطّ، إنه ينتقل أيضاً إلى ملوّنة الحسين. لا نزال نشعر أننا أمام ملوّنة مقصودة، فليس عن عبث أن الأشياء جميعها ليست مرسومة بدرجة تجعلها أقرب إلى أن تكون فنّاً مستعاراً. إنها قبل كل شيء نقلٌ لها من شيئيّتها، إلى حيث تكون فنّاً بأقصر الطرق، وأكثرها يومية وابتذالاً وبدائية. هي في تلوينها لا تفعل شيئاً آخر، إنها تلوّنها لكي تبدو ملوّنة، ولأن اللوحة هي أيضاً خطٌّ ولون، والخط واللون هما الفن فيها.
لا يصبح الحذاء أو الكرسي فناً إلا إذا صرحنا بذلك وأردناه
لكنّ الفن هنا لا يدّعي أنه حقيقي، أو أنه إعادة خلق، أو أنه واقع آخر. الفن هنا هو فنٌّ بأبسط الطرق، هو فنٌّ لأننا نريده فنّاً، ولأن الحذاء أو القدم أو الكرسي لا يصبح فنّاً إلّا إذا صرّحنا بذلك وأردناه، بل شئنا أن نجعل ذلك علامة وعنواناً. ملوّنة رولا الحسين هي أيضاً مقصودة، إنها أقرب إلى التزيين، أقرب إلى التلوين الحرّ، تلوين بحت. هكذا نرى أن الألوان جميعها فاتحة، أيّاً كان الغرض، وأيّاً كانت الرسمة. اللون هنا لا يعبأ بالوضع، لا يعبأ بالضوء، فأشياء الرسّامة ليست مرئية في زمن ومكان محدّدين؛ إن وجودها مطلق، وهي ملوّنة لأنها هكذا تبدو فنّاً. إنها ملوّنة لأن الفنّ ملوّن، ولأننا هكذا نكرّسها كفنّ. إنها خطّ ولون، كما هو العمل الفني، كما هو التصوير، وكما هي اللوحة.
عند هذا نفهم أن تواضع لوحات رولا الحسين ليس جدّياً ولا حقيقياً. إذا كانت الرسّامة تقول إنها تجعل أشياءها فنّاً بأقصر الطرق، بل بافتعالها أحياناً، فإننا نفهم، بعد الرؤية، أننا أمام أسلوب خاصّ، أمام فنٍّ قائم بذاته. أمام تجربة، في تعميمها على هذا الحشد الكبير من اللوحات، هي بحدّ ذاتها مغامرة، طابعُها في إخفاء نفسها، بل في انطلاقها من الاختفاء بحدّ ذاته.
* شاعر وروائي من لبنان