"حياة سبينوزا" محاولة لرسم صورة للفيلسوف

18 ديسمبر 2020
تمثال سبينوزا في أمستردام
+ الخط -

كان والدا الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) البرتغاليان من بين العديد من اليهود الذين تم تحويلهم قسرا إلى المسيحية لكنهم استمروا في ممارسة اليهودية في الخفاء. بعد اعتقالهما وتعذيبهما وإدانتهما من قبل محاكم التفتيش في البرتغال، هربا إلى أمستردام، حيث أصبح والد سبينوزا تاجرًا، وتوفيت والدته قبل عيد ميلاده السادس بقليل.

هناك بعض الأدلة على أن سبينوزا بدأ في لفت الانتباه باعتباره مهرطقًا محتملاً عندما كان في أوائل العشرينات من عمره. بعد أن بدأ هو وشابان آخران في التدريس في مدرسة السبت، تم اتهام الثلاثة بارتكاب مخالفات. اتُهم الرجلان الآخران أيضاً بإثارة الشكوك في أذهان طلابهما حول الدقة التاريخية للكتاب المقدس وحول ما إذا كانت هناك روايات أخرى عن التاريخ البشري لها ادعاء مساوٍ أو حتى أفضل للحقيقة.

تأثر سبينوزا بكتابات لابريير الذي اتهم بالهرطقة، وكانت هذه نقطة البداية في خلاف سبينوزا مع الكنيس اليهودي في أمستردام. في صيف عام 1656 تم طرده رسميًا. ألقيت عليه سلسلة من الشتائم، ومنع أعضاء الكنيس من إقامة علاقة معه، أو قراءة أي شيء كتبه، أو الاستماع إلى ما يقوله. على الرغم من استبعاده رسميًا من المجتمع اليهودي، يبدو أنه ظل على اتصال ببعض الأعضاء، حتى أنه شارك في مجموعة مناقشة لاهوتية يهودية في أواخر خمسينيات القرن السادس عشر.

انخراطي بخزانة مدينة ليدن العريقة مكنتني من الاطلاع على مخطوطات ومراجع من لغات مختلفة

سيرة سبينوزا المليئة بالجدل والإشكالية هي موضوع سعى خلف دراسته وإعادة قراءته الشاعر والمترجم المغربي عبد القادر الجموسي في كتاب صدر حديثاً عن دار "أكورا" بعنوان "حياة سبينوزا - من الطائفة إلى الدولة". ويقول الكاتب: "ابتدأت فكرة الكتاب عن سبينوزا منذ سنوات إقامتي بمدينة لاهاي (1995-2001)، حيث اكتشفت هذا الفيلسوف الهولندي الكبير، الذي حول مسار الفكر الفلسفي الإنساني برمته، مما جعل فيلسوفاً مثل هيغل يقول عنه: إما أن يكون المرء سبينوزياً أو لا يكون فيلسوفاً على الإطلاق".

ويضيف: "لعل ما ساعدنى على الاقتراب من عالم الفلسفة السبينوزية هو انخراطي بخزانة مدينة ليدن العريقة، التي مكنتني من الاطلاع على ذخائر من المخطوطات والمراجع من مختلف اللغات. وكنت في كل مرحلة من مراحل اكتشافي لعالم سبينوزا أزداد دهشة وفضولاً لبذل المزيد من الجهد لفهم مقاصده، التي لم تكن تخلو من تعقيد ودقة اعترف بها حتى المتخصّصون في فلسفته".

ويكمل في تقديم الكتاب: "تدريجياً وجدتني أقرأ أعماله الكاملة ورسائله وبعضاً مما أتيح لي من سير حياته، متمحّصاً ومدقّقاً ومقارناً. وكم كانت دهشتي أكبر وأنا أكتشف المفارقات الكبرى والمواقف المتضاربة التى أثارتها حياة هذا الفيلسوف وأفكاره، مما جعله أقرب إلى الأسطورة".

غلاف الكتاب

يقول الجموسي إن "فلسفة باروخ سبينوزا عبارة عن مشروع معرفي، يسعى إلى تقديم قراءة شاملة للوجود، قراءة تنطلق من إيمان راسخ بقدرة العقل الإنساني على فهم نظام الطبيعة الشامل. لكن هذا الطموح المعرفي العقلاني أثار من حول الفيلسوف جدلاً واسعاً، دفع بالعديد من قرائه إلى اتهامه بتعليم "الإلحاد" فيما اعتبره آخرون، ويا للمفارقة! فيلسوفاً منتشياً بحب الله".

وتكاد تكون النقطة التى لا يختلف حولها الدارسون، على مدى تعاقب الأزمنة، هي سمتا العمق والتعقيد اللتين تميزان طروحات سبينوزا ورؤيته للعالم، والتي ما تزال تثير الأسئلة وتعدد التأويلات. وهي السمة نفسها التي دفعت بأقرب أصدقائه ومحاوريه، أثناء حياته، إلى التعبير عن دقة موضوعاته، فكانوا يلحون عليه لتقديم المزيد من الإيضاحات لتسليط الضوء على آرائه ونظرياته الفلسفية المستجدّة.

أما اليوم، بحسب الجموسي، فتبدو المسافة النقدية مع مشروع سبينوزا الفلسفي ملائمة لإعطاء فكرة أوضح عن الفيلسوف وحجم إسهامه في تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني. مبيناً "ما هذه السيرة التي أقدمها بين يدي القارئ العربي سوى محاولة لرسم صورة حياة الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، أتتبع فيها أطوار مساره الفلسفي في علاقتها مع حياته الشخصية، وذلك على قاعدة أن سيرة حياة أي فيلسوف هي بمثابة مفتاح لولوج عالمه واستقبال أفكاره ونظرياته. ولعل القارئ يتبين في هذه السيرة مصدر نشوء العديد من أفكار سبينوزا، من رحم تفاعله وسجلاته مع رجالات عصره، من علماء وفلاسفة أمثال كريستيان هيجنز وروبرت بويل وليبنز".

المساهمون