حياة الشخصيات

06 اغسطس 2021
لوحة "الحكم على أنتيغون" لـ جيوزبي ديوتي، 1845
+ الخط -

يُخيّر كريون أنتيغونا، في مسرحية سوفوكليس التي أخذت الاسم ذاته، بين أمرين: الأول، وهو ما يفضّله، أن تعتذر عن الفعل الذي قامت به، وتقرّ بأنها لم تكن تعلم شيئاً عن الأمر الذي أصدره بمنع دفن جثامين المقاتلين الذين اعتبرهم أعداءه، وترك جثثهم في العراء كي تلتهمها الكلاب، ومن بينهم أحد شقيقيها، والثاني أن تُعدَم لأنها خالفت الأوامر. ماذا عليها أن تقول أو تفعل؟ هل تختار الاعتذار، فتعيش، أم تختار الرفض فتعدم؟ يميل القارئ في ذلك الموقف إلى تشجيعها على اتخاذ الموقف الأول، انتصاراً للحياة، غير أن سوفوكليس يدفع بها نحو الخيار الثاني، أي أنها تختار أن تموت. ترفض أنتيغونا أن تعتذر عن قيامها بدفن شقيقها، وتقدّم درساً للطاغية في أخلاق الإنسان الحقيقي.

تلك هي فكرة الكاتب الفنّان: فلو تخيّلنا أنها اختارت أن تعتذر، فما الذي سيبقى من المسرحية؟ لا شكّ أنّ مصير هذه البطلة التراجيدية العظيمة، ومصير المسرحية، أي الفن كلّه، كان قد آل إلى المحو.

تستمر هذه المسرحية، أو يستمر الفن عامّةً بفضل مثل هذه المواقف، يعلّمنا سوفوكليس هنا كيف تُكتب الرواية أو المسرحية، فلو اختارت أنتيغونا الاعتذار، لماتت المسرحية، وانتهت القصة، ومات المسرحي. ربما كان الطاغية كريون يفكّر في ذلك أيضاً خارج النص.

تتجسّد الشخصية الفنية في آلاف البطلات والأبطال الحقيقيّين

يبدو أن ذلك المستبد أراد أن يتيح لنفسه منفذاً للخلاص، أو للهرب من الذاكرة، قبل أن ينقذ أنتيغونا ابنة أخته، كان كريون يرغب في إنهاء الحكاية؟ ربما هو المستبد الوحيد في التاريخ الذي أدرك أخطار الحكايات، وأراد أن يخلّص نفسه من مأزق البقاء فيها. ما كانت لدينا مسرحية نناقشها فيما لو ذهبنا في هذا الاتجاه. الأخطر من ذلك أنه كان حرمنا من النقاش في أدوار البشر أيضاً، فبقدر ما نهتمّ بم يفكّر طاغية مثل كريون، ننشغل أيضاً بما يفكّر إنسان مثل أنتيغونا. 

لكن سوفوكليس قرّر ألّا يمنح الطاغية أي فرصة للنجاة من لعنة التاريخ، تلك اللعنة التي سوف تظلّ تلاحقه إلى الأبد. هذه هي الحكمة العميقة من دفع أنتيغونا إلى الرفض، فموقفها لا يُفضي بها إلّا إلى الموت الجسدي، بينما هي تعود إلى الحياة الأدبية بوصفها الشخصية المكتملة (قال والتر كاوفمان في "التراجيديا والفلسفة" إنها الشخصية الوحيدة في التاريخ التي لا تعيبها شائبة)، وفي المواجهة مع كريون يفشل هذا في أن يكون ندّاً لها من الناحية الأخلاقية، يدخل إلى التاريخ مجلَّلاً بالخزي، حين لا يسمح له الكاتب بالعثور لدى بطلة المسرحية على أي أمل كي يتخلّص من تبعات قراره الجائر.

في أنتيغونا يكاد المتفرّج، أو القارئ في حالتنا، يشفق على الخصم، على المستبدّ الصغير المنتقم، لا على البطلة التي تواجه مصيرها ببسالة نادرة في الحياة والكتب. صحيح أنّنا أمام شخصية من ورق، أو من المخيّلة، غير أنها سوف تتجسّد عبر التاريخ الإنساني في آلاف البطلات والأبطال الحقيقيّين من أناس رفضوا أن ينحنوا. أنتيغونا بهذا المعنى هي التوقُّع الفني لمآل أولئك الذين لن تذكرهم كتب التاريخ.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون