نحن لم نأت مع الفاتحين العرب في القرن السابع الميلادي. نحن من رحّب بهم واستقبلهم في الخليل والقدس وأسّس معهم نظاماً جديداً حلَّ محلَّ الإمبراطورية البيزنطية الرومانية، التي كانت تستخدم المسيحية كوجه استعماريٍّ جديد. من كنّا إذن في ذلك الوقت؟
كنّا عرباً موالين للرومان، في الخليل تميم الداري وإخوته وعائلاته، وأشباههم كُثر في مدنٍ وبوادٍ فلسطينيةٍ كثيرة. كنا مسيحيين آراميين ومختلطي الأعراق. كنّا بقايا يهودٍ من سامريين وغيرهم، نعيش تحت حكم ما يسمونه أشباهنا المستقلين "الرومان". ثم جاء عربُ الجزيرة بالإسلام، توحّدوا تحت رايته، وأسّسوا نظاماً جديداً أشبه بديمقراطية اليونان القدماء، وديناً محدَّثاً تطوّر عن المسيحية واليهودية يعود إلى دين رجل قديم سكن في مدينتنا اسمه إبراهيم، هاجر قديماً من العراق، واستقر عندنا في فلسطين. توزّع أبناؤه في مدنٍ كثيرة ونواحٍ شتّى، منهم من "هاجر" عند العرب وصار منهم، ومنهم من عُرف بعد ذلك بالعبراني.
كان الدين الجديد مميّزاً وعصرياً، فتبنّاه كثيرٌ منّا، بينما فضّل الباقون الاحتفاظ بالمسيحية القديمة على أن يتحالفوا مع من أسلم منّا، ويدخلوا تحت إمرة عمر، الذي جاء بنفسه ليزور المدينة المقدسة. لم يهدم عمر الكنيسة، وبنى مسجداً قريباً. تقبّل المسيحيون هذا، وفرحوا بالتخلّص من حكم الرومان الأغراب، الذين جاؤوا من أقطار بعيدة، وكوّنوا أرستقراطيات متوحّشة تأكل خيرات البلاد وتصرفها في مسارح روما.
كانت مكة أقرب إلينا من روما، والمدينة أحبُّ إلينا من القسطنطينية، فسمحنا أن يذهب خراج بلادنا إليهما، أو يستقرّ أهلهما معنا هنا، فلسانهم أقرب للساننا، وعاداتهم وأشكالهم أشبه بنا. شيئاً فشيئاً وجدنا لغتهم العربية تتفوّق على ما تبقّى عندنا من آرامية، فتبنّيناها وخلطناها بلغتنا، وشكّلنا لهجة جديدة، نبغ منا فقهاء وعلماء في الدين الجديد، وأدباء يجيدون اللغة المتطورة.
إلى ذلك الوقت كنّا لا نزال نشعر أنَّ إبراهيم الذي نسكن مدينته الخليل لا يزال واحداً منّا، وأنّنا لم نترك دينه بل طوّرناه، وحوّلنا قبره وقبر بنيه إلى مسجد. وكنا نتلو قَصصهم في كتابنا الجديد، ونصلي عليهم وعلى أبنائهم، حتى إنّنا لم نقطع عادتنا بتوزيع الطعام من تكيَّته، وحافظنا على كثير من طقوسه وشرائعه، حتى التي لم يخبرنا بها النبي الأخير، لم يخبرنا بها ونحن أدرى بها منه؟ فنحن أبناء إبراهيم أو جيران أبنائهم، والنبي أعطانا من البداية إقطاعية هذه الأراضي وجعلها وقفاً لنا نحتفظ بها ونقيم طقوس إبراهيم عليها.
كان النبي يعرف أرضنا جيداً ويبدو أنّه زارها غير مرّة
كنا لا نزال نشعر أن المسيح أخونا، حتى حين أسلم أكثرنا، فمن بقي على دعوة المسيح القديمة كان كأنّه خجل أن يخذل المسيح وأن يتّبع غيره، وفضّل أن يجتهد في اتباع ما توارثه من تعاليمه، ومن وافق على تبنّي الدين الجديد كان لا يزال يصلّي على المسيح، ويقرأ أخباره وأخبار أُمّه وابن خالته التي جرت عندنا وبين ظهرانينا، كان النبي الأخير يعرف أرضنا جيداً، يبدو أنّه زارها مع جدّه أكثر من مرّة، ويبدو أنّه كان له أصحاب وعلاقات فيها، خصوصاً أنّه من عائلة شريفة غنية، لها اتصال بكل العرب في الأقطار المختلفة.
حين طردنا الرومان احتفظوا منّا بالدين المسيحي القديم، ولم يقبل أغلبهم - على عكس خصومهم الفرس - أن يتنازل للدين الجديد ولا أن يرضى بالعلاقة مع العرب، كانوا يعتبرونهم أمّة أقل منه، وأنّهم أهل بداوة وفوضى، رغم أنَّ الرومان وعلى مدار حوالى ألف سنة كانوا يحاولون دخول الجزيرة العربية عليهم، وإسقاط ممالكهم وإخماد قبليتهم وعجزوا، لأسباب كثيرة، ربما أهمها أن العرب كانوا يمقتون ثقافة الرومان وطراز عيشهم، وكانت لهم عادات وتقاليد يتوارثونها من آبائهم القدماء، ويتناقلونها شفاهةً بلغتهم المُحكمة المضبوطة، يسنّونها قوانين وأعرافاً تُصاغ بالشعر وخطب الحكمة.
ثم كان دين الإسلام الذي جاء متمّماً لمكارم الأخلاق هذه، وجامعاً للصف العربي، سبباً في تفوّقهم، وفتح باب التواصل بينهم وبين جيرانهم من العرب خارج الجزيرة، أو إخوانهم من الساميّين في سورية وفلسطين، بل وأهالي مصر القدماء الذين كانوا مثلنا تحت احتلال الرومان، وفي ما بعد شمال أفريقيا كلها.
الرومان الذين طردناهم انتظروا حوالى خمسمئة سنة، واستغلّوا فترة انقسام كبيرة في جسم الإمبراطورية الجديدة، ثم انقضوا علينا باسم الدين الذي أخذوه منّا، وأعادوا تعريفه وصياغته بما يناسب ثقافتهم وعاداتهم. لم يعد الرومان وحدهم هذه المرّة، بل استعانوا بأقوام وشعوب جديدة، أسميناهم وقتها الفرنجة، ولم يكونوا كلّهم فرنجة، بل كانوا جرماناً وفايكنغ وغيرهم من الشعوب التي كانت تعيش وريثة للإمبراطورية الكبيرة ويتنافس أمراؤهم في ما بينهم. وكي يحلُّوا مشاكلهم، اقترح البابا أنّ يغزوا فلسطين، ويستعيدوا بلداً ليست لهم، حتى يتلهّوا بنا عن أنفسهم.
ما نعرفه أنهم ليسوا منّا، ولا يعرفون عن بلادنا شيئاً
دمّروا البلد، وحرقوا في طريقهم قرى يهودية كثيرة، ثم قتلوا المسلمين والمسيحيين، وعاشوا هناك قرابة مئة عام، حتى جاءت جيوش مختلطة من أبناء المنطقة، أغلبهم عرب، وقائدهم كرديُّ اسمه صلاح الدين، كان يعمل عند أميرٍ تركيٍّ من حلب. اجتمع كلُّ هؤلاء بعد علاقات سياسية وتجارية طويلة، جمعتهم تحت ظلّ الدولة العباسية التي كنّا جزءاً منها، لذا كانت تربطنا بهم علاقات دبلوماسية وتاريخية كثيرة، وكانت بلادنا دائماً مفتوحة لهم وبلادهم لنا.
وحين جاؤوا قاتلنا معهم، وطردنا أغلب الصليبيّين، وأعدنا استقامة البلد. استقر كثيرٌ من هؤلاء الأكراد والعرب، في مدن شتّى هنا، وخاصة في مدينة الخليل، لأنّهم كانوا مثلنا يحبّون إبراهيم ويعظّمونه، وصارت لهم حوارٍ تسمّى حواري الأكراد، ودواوين ومكتبات، حتى إنّهم ساهموا في إعادة بناء أكبر مدننا، الخليل والقدس ونابلس ويافا وعكا، ولا تزال أغلب المباني والشوارع والحدائق والمساجد والمدارس التي بنوها موجودة لليوم، نسكنها ونتنقل بها.
ولأنَّ بلادنا جميلة وتاريخها مغرٍ، قرّرت مرّة أخرى جماعات من بقايا الرومان، لكن هذه المرّة بدعوة الانتساب للدين الأقدم، الدين الذي تركه أغلبنا، فمنّا من تبع المسيح حين جاء ومنّا من انضم إلى المسلمين الفاتحين، ولم يبق إلّا قلّة قليلة تتبع تقاليد الدين القديم اليهودية، كان كثير منهم منتشرين في البلاد، لا نعرف عنهم شيئاً ولا نسمع كثيراً من أخبارهم، ولا نعرف هل هم من أبنائنا أم هم أناس انتسبوا بعد ذلك إلى اليهودية، لكن ما نعرفهم أنهم ليسوا منّا، ولا يعرفون عن بلادنا شيئاً ولا يرتبطون بها.
نحن صمدنا عليها وتعايشنا وعشنا كلّ تغيراتها وأحببناها كما هي. أمّا هم فقد تركوا أو ربّما أجبروا على تركها قبل آلاف السنين. على أي حال، هم أرادوا أن "يعودوا"، أن ينتقلوا إلينا، لأن البلاد التي كانوا يعيشون فيها كانت تنهك حقوقهم وتضيّق عليهم حياتهم، قلنا لهم مرحبا وفتحنا لهم أذرعنا.
لكننا كنّا في الوقت نفسه نخسر سيادتنا على أرضنا، كنا قد ائتمنا الأتراك على إدارة الدواوين والمؤسّسات، كونهم من أتباع الدين الأخير، وكوننا واصلنا معهم وبهم نظاماً إمبراطورياً اسمه الخلافة. لكن العالم كان يتغيّر والخلافة يبدو أنّها لم تعد صالحة لضمّنا جميعاً معاً.
وكما حدث حين ضعف الخليفة في بغدان، ضعفَ الخليفة في إسطنبول، فانقض علينا فرنجة جدد، هذه المرّة من بريطانيا وبمساعدتها، واكتشفنا أنَّ اليهود الذين يريدون العودة، كانوا مدفوعين من مليونيرية لندن وغيرها من عواصم أوروبا، وليسوا المضطّهدين المساكين، بل كانوا يستغلّون هؤلاء المساكين وطيبة قلوبنا ليرسلوهم إلينا بالآلاف.
وحين استقبلناهم، سلّحوهم وأغروهم بنا، فهجموا علينا وانقضوا دفعة واحدة ونحن مشغولون بالتقسيمات الجديدة وأشكال الحكم الجديدة والدولة التي تتكوّن وتسقط من خلفنا، فدمّروا كثيراً من مدننا وقرانا، وعلى رأسها يافا، وهجّروا آلافاً منّا، واليوم يزعمون أنّهم أصحاب الأرض من ثلاثة آلاف سنة، ويريدون أن يطردونا منها!
* كاتب من فلسطين مقيم في ألمانيا