حصرم الآباء

15 ديسمبر 2023
طفل فلسطيني في منزل دمّره القصف الإسرائيلي على مخيّم جنين، منذ أيام 2023 (Getty)
+ الخط -

الراجح أنّ الجيل العربي الأوّل الذي بدأ كتابة الرواية والمسرح والقصّة والشعر كان مؤمناً بكلّ القضايا التي واجهت بلاده، أو أمّته، بغضّ النظر عن القضية وفحواها وضرورتها وأهمّيتها، بينما عاش الجيل التالي، جيلنا بشكل خاص، في خضمّ انهيار تلك القضايا، ونكستها، وانكسارها.

من الصعب أن نجد شخصية، في الرواية العربية، بعد نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم مثلاً، لديها مشروع على غرار شخصيات رواياتهما. ونجيب محفوظ شخصياً هو الممثّل الأكثر جدارة، في الرواية العربية، في طرح القضايا الفكرية، التي تشمل جيله الأدبي كلّه، روائياً، بينما تكاد معظم الشخصيات في الرواية العربية، لدى الأجيال التي جاءت بعده، تكون قد تخلّت عن القضايا، ولم تعُد تناضل من أجلها.

وهذا لا يعني أنّه كان جيلاً بلا أزمات، بل لقد عانى، مثل كلّ الأجيال العربية في القرن العشرين، من أزمات كثيرة: أزمة في العيش الكريم، وأزمة في الحياة السياسية والاقتصادية، وأزمة في الخيارات الحضارية المتاحة، وأزمة نشوء "إسرائيل" أمام أعينهم. ويبقى الفارق هو في مستوى ودرجة الإيمان، إذ كانوا يناضلون أو يكافحون أو يعملون، وهم يؤمنون بحقيقة المبادئ التي ينشدونها، أو يريدون تحقيقها.

السياسيّون العرب هَزموا المفكّرين والروائيّين والشعراء العرب

كانوا يعرفون ما يريدون، وكانت مبادئهم التي يؤمنون بها تورَّث إلى شخصياتهم الروائية. ولكن لم يتحقّق شيء من قضايا شخصياتهم، وانهارت مشاريعهم كلُّها، انهارت بفعل التفكُّك الداخلي، والنخر والخراب الذي عشّش في بنيتها منذ البداية. سقط المشروع الاشتراكي المحلّي بفعل استبداد داخلي حوّل القادة إلى أيقونات، وعظّم شخصياتهم حتى طغت على كلّ حقيقة واقعية، بحيث بدا المشروع كلُّه متعلّقاً بشخص القائد لهذا الحزب أو ذاك، وإنّ الاشتراكية نفسها سوف تفشل، وتسقط، أو تموت بسقوط أو موت "العظيم".

كانت سياسةَ أيتام مغلقة، سرّعت في نهاية المشاريع كلّها، بعد انهيار المركز في موسكو. ولم يُقدّم المشروع القومي، أو المشاريع القومية، غير التنافس والاقتتال، والمزيد من التجزئة السياسية، والهزائم العسكرية، وسرعان ما تغلّبت العسكرة والعنف على المشروع الإسلامي، وفقد مصداقيته أيضاً بانقساماته الألفية التي تُثبت أنّ الصراعات لديه أرضية تتعلّق بالمصالح. 

جيلنا، ونحن أبناء ما بعد هزيمة عام 1967، يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الإيمان بأيّ شيء، أو مبدأ، أو حقيقة، إذ إنّنا واجهنا منذ أن اكتمل وعينا أزمة في الحقيقة عن كلّ شيء، واجهنا تلك الهزائم في مشاريع المستقبل، وواجهنا الهزائم العسكرية المتتالية في جميع الحروب التي خاضتها الدولة العربية (وهي دولة واحدة في دول على الرغم من اختلاف النظم السياسية). وبهذا المعنى، فإنّ السياسيّين العرب قد هَزموا المفكّرين والروائيّين والشعراء العرب، فالكاتب الحالم بصدق، حتى لو كان نجيب محفوظ نفسه، يهزمه أصغرُ حزبي ناشط في الحزب الحاكم، أو المسيطر. وليس الحال أفضل أبداً في العراق وسورية والأردن، ولبنان لاحقاً.

ولهذا كلّه، خسر جيل كامل، وأجيالٌ أُخرى من بعده، اليقين، والإيمان بأيّ شيء. والمثل العربي الأكثر قدرة على تصوير حال الأجيال العربية هو ذلك الذي يقول "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون".


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون