في مثل هذا اليوم في 1922، وُلد حسن ابن الشيخ أحمد كلشي في مملكة يوغسلافيا التي كان قد مضى على تأسيسها أربع سنوات، والتي جمعت لأول مرة منطقتين مختلفتين ثقافياً: الجنوب الذي بقي عدة قرون تحت الحكم العثماني وترك ثقافة شرقية مادية وأدبية غنية، والشمال الذي بقي عدة قرون تحت حكم النمسا، وينتمي ثقافياً إلى أوروبا الوسطى.
في هذه البيئة غير المتجانسة بعد، التي شهدت تقلّبات سياسية عديدة أدّت إلى تفكيكها وإعادة تركيبها مرّة بواسطة اليمين القومي ومرّة بواسطة اليسار العابر للحدود، وُلد حسن كلشي في قرية سربيتسا بمقدونيا الغربية ذات الغالبية الألبانية لأب شيخ متعلّم نجح في دفع ابنه نحو حبّ العربية منذ طفولته، وأصبح حافظاً للقرآن خلال وجوده في المدرسة الابتدائية. ومع هذا التأسيس تابع كلشي الدراسة في "مدرسة الملك ألكسندر" في سكوبيه، التي تأسّست على اسم ملك يوغسلافيا لتوفير تعليم مدني وإسلامي لأبناء المسلمين في جنوب يوغسلافيا. إلا أن دراسته توقفت مع إغلاق المدرسة في ربيع 1941 نتيجة للغزو الألماني/ الإيطالي ليوغسلافيا التي انشطرت آنذاك إلى عدة دول. وهكذا أصبحت مقدونيا الغربية ذات الغالبية الألبانية ضمن "ألبانيا الكبرى"، فذهب حسن كلشي إلى كوسوفو ليكمل دراسته الثانوية في بريشتينا.
ومع تخرّجه من هذه المدرسة كانت قد تشكّلت يوغسلافيا جديدة تحت حكم الحزب الشيوعي، الذي قاد زعيمه تيتو لاحقاً البلاد نحو الانفتاح على العالم العربي الإسلامي تحت مظلة "عدم الانحياز". ومع التأسيس القوي الذي ورثه عن والده الشيخ أحمد، والميل لتعميق هذا الأساس بأفق مدني منفتح على العصر؛ لم يجد الشاب حسن كلشي في 1946 سوى الالتحاق بقسم الاستشراق في جامعة بلغراد، الذي كان قد افتتح في 1926. ومع نجاحه في هذا القسم عُيّن مُعيداً فيه إلى أن ناقش رسالته للدكتوراه في 1960 حول "أقدم الوثائق الوقفية باللغة العربية في مقدونيا" التي سجّلت فتحاً علمياً في مجال سيتطوّر لاحقاً حتى الآن: دراسة وثائق الوقف كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
طرح مفهوماً مختلفاً عن الاستشراق يقوم على دراسة المحلّي
كانت هذه لحظة انطلاقٍ نحو عالم أرحب أصبح فيه كلشي أشهر عالم في الدراسات الشرقية خارج يوغسلافيا: من فرنسا إلى ألمانيا ومن إسطنبول إلى القاهرة حيث انتخب في 1967 عضواً في "مجمع اللغة العربية". كان تفرّده على مستوى يوغسلافيا السابقة يقوم على ثلاثة أمور: معرفته الجيّدة بعشر لغات (الألبانية والمقدونية والعربية والتركية والعثمانية والصربوكرواتية والإيطالية والألمانية والفرنسية والإنكليزية) كان يقرأ ويكتب وينشر دراساته فيها بالمجلات العلمية المعروفة. أما الأمر الثاني، فهو انفتاحه على علوم اللغة والنقد والأدب والفولكلور والتاريخ ونشاطه الرائد في ترجمة الآداب الشرقية إلى اللغات التي كان يعرفها. بالإضافة إلى معرفته الجيدة بالأرشيف العثماني والأرشيفات الأوروبية ذات العلاقة بالبلقان، ما جعل دراساته مرجعية بحكم ما يكشفه عن معلومات مستقاة من الوثائق والمصادر المخطوطة.
ومن هنا فإن دراساته عن البلقان خلال الحكم العثماني وتأثيراته خلال حوالى 500 سنة (وبالتحديد عن انتشار الإسلام المدرسيّ والإسلام الشعبي والمؤثرات الشرقية في الآداب الشعبية البلقانية ودور أبناء البلقان في بروز الأفكار السياسية الحديثة والأجناس الأدبية والصحافة المروّجة لكل هذا في عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول) بقيت حتى الآن ذات قيمة وفتحت الأبواب لجيلين على الأقل من الباحثين للتعمّق والتوسع فيها.
من الجوانب الأخرى التي تهمّ القارئ العربي، يمكن أن نتوقف عند جانبين آخرين. أما الأول فهو مفهوم حسن كلشي عن الاستشراق الذي كان يمثل مدرسة في حد ذاتها داخل يوغسلافيا، وهو الذي تخرّج من قسم الاستشراق في بلغراد وأسّس لقسم الاستشراق الثالث في يوغسلافيا (بعد سراييفو) في جامعة بريشتينا عام 1973.
ففي كلمة له في "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة في 1965 طرح مفهوماً مختلفاً عن الاستشراق بالنسبة إلى العرب في ذلك الوقت ضمّنه رؤيته لمهام الاستشراق في يوغسلافيا: "دراسة ماضينا خلال العصر العثماني وكلّ ما يتصل بالحضارة العربية في هذا العهد، بما يتضمّنه ذلك من جمع الوثائق العربية وبحثها ونشرها، تلك الوثائق التي كُتبت باللغة العربية خلال الحكم العثماني، وخاصة وثائق الأوقاف، والكتابات على جدران الجوامع والمباني. ومن ثم دراسة المخطوطات التي يبلغ عددها 15 ألفاً وتأليف الفهارس لتصبح هذه الثروة في متناول جميع العلماء في أنحاء العالم. بالإضافة إلى نشر اللغة العربية وترجمة الأدب العربي إلى لغات يوغسلافيا". ومن الواضح هنا بالنسبة إلى كلشي، وهو الذي وُلد وتعلّم ما بين مقدونيا وكوسوفو الغنية بالمخطوطات الشرقية التي كتب أو نَسخ جزءاً منها أبناء المنطقة، أن "الاستشراق" كما يفهمه لم يعد دراسة "الآخر المختلف"، بل دراسة التراث المحلّي الغني الذي تراكم خلال 500 سنة من الحكم العثماني، الذي برز فيه أبناء المنطقة في الإدارة كما في الثقافة، وكانت لهم مشاركات مهمة في الآداب الشرقية (العربية والتركية والفارسية).
أما في ما يتعلّق بالمهمّة الأخرى التي أوكلها إلى الاستشراق في يوغسلافيا، وهي "نشر اللغة العربية وترجمة الأدب العربي إلى لغات يوغسلافيا"، فقد كان كلشي سبّاقاً ونموذجاً ملهماً لمساعديه وطلابه في قسم الاستشراق بجامعة بريشتينا للتعريف بالأدب العربي، سواء أكان من خلال الدراسات، أم من خلال الترجمات منذ خمسينيات القرن الماضي.
وهكذا فقد ترجم قصائد من شعر العرب القدماء (عنترة وابن الرومي والمتنبي وغيرهم) والمعاصرين (أبو القاسم الشابي، جبران خليل جبران، بلند الحيدري، نزار قباني، سليمان العيسى وغيرهم) إلى عدة لغات (الألبانية، التركية، المقدونية والصربية). وبالإضافة إلى ذلك، فقد نشر عدة دراسات متخصّصة كـ "الأدب المصري المعاصر" في سنة 1956 و"ظواهر جديدة في الشعر العربي الحديث" في سنة 1965، إلخ. وفي هذا الإطار، اهتم كلشي بشكل خاص بالكاتب القصصي محمود تيمور، الذي ربطته صداقة معه، حيث ترجم له عدة قصص في عدة لغات (في المقدونية والتركية والصربية والألبانية) خلال الخمسينيات، ثم نشر له مجموعة كاملة في اللغة المقدونية بعنوان "مكتوب على الجبين" في 1964 ومجموعة أخرى في الألبانية بعنوان "الحاج جلبي" في سنة 1968. وقد توجّ كلشي اهتمامه في هذا المجال بإعداد كتاب جامعي عن الأدب العربي قدّمه للنشر إلى رئاسة جامعة بريشتينا في 1976، إلا أن هذا المخطوط "فُقد" بعد وفاته، ولم يرَ النور حتى الآن، على الرغم من أهميته كأول كتاب جامعي في هذا المجال.
كان العمل مع عالم موسوعي كحسن كلشي متعة يومية بروحه الإنسانية ومسؤولية كبيرة، لأنه كان يميّز بين الجانب اليومي الإنساني والالتزام المتوقع منّا لصالح العمل في القسم، نظراً إلى تطلعه الكبير نحو المستقبل. فقد كانت له ملاحظاته على عمل القسم الأول في بلغراد (1926) والقسم الثاني في سراييفو (1950)، وهو الذي نشأ في إطار المدرسة الفيلولوجية الألمانية المعروفة بالدقة والصرامة العلمية، ولذلك أراد للقسم الثالث الذي أسّسه في 1973 أن يكون نموذجاً.
وبالفعل، فقد نجح حسن كلشي في تكوين نخبة من الأكاديميين، سواء من المساعدين (فتحي مهديو وأسعد دوراكوفيتش ومحمد موفاكو وغيرهم) أو من الطلاب (مهدي بوليسي وعرفان مورينا وعبد الله حميدي وعيسى مميشي وغيرهم) تذكُره بالوفاء والامتنان حتى اليوم.
دعا إلى تأليف الفهارس لتصبح المخطوطات ثروة في المتناول
ولكن نموذج عالِم معروف عابر للحدود اللغوية والقومية مثل حسن كلشي كان محكوماً بالمواجهة مع مجتمع يسير بمعايير أخرى وينظر إلى زواجه بصربية "خيانة" تغطي على كل إسهاماته العلمية، ما أدى إلى حصاره والتضييق عليه ليتوفى فجأة في 19 تموز/ يوليو 1976 وهو في قمة العطاء العلمي.
وقد نشر الزميل فتحي مهديو منذ أسبوعين رسالة كتبها حسن كلشي إلى صديق له في الولايات المتحدة قبل شهر واحد من وفاته، يقول فيها: "لديّ خطط جيدة وكبيرة (للقسم) ولكن صحتي ليست على ما يرام. إني أكافح لكي يكون قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا في وضع جيد، ولكن هذا ما يوتّرني لأنهم يعملون كلّ شيء لأجل تحطيمي وتخريب القسم، إلا أنني سأكافح بقدر ما أستطيع".
ومن باب الوفاء له، أعدّ بعض المساعدين السابقين لحسن كلشي مختارات من دراساته بعدة لغات (الألبانية والصربية والكرواتية والتركية والعربية) لتكون تكريماً لعالِم موسوعي لم يعد لدينا مثله، وتعريفاً للجيل الجديد في جمهوريات يوغسلافيا السابقة وتركيا والعالم العربي بعالِم عابر للحدود اللغوية والقومية ترك تراثاً غنياً من الدراسات التي تتناول ما كان يجمع بين كل هذه الشعوب.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري