حسام الخطيب.. مُقارِنٌ عنيد وروحٌ أنيسة

18 نوفمبر 2022
حسام الخطيب في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

برحيل الناقد والكاتب الفلسطيني حسام الخطيب أول أمس عن تسعين عاماً، يتواصل ذكرُه عبر أثر ممتدّ في ميادين الأدب المقارن والتدريس والترجمة والبحوث باللغتين العربية والإنكليزية والنضال السياسي، غير أنّ من عرفه شخصياً سيفتقد روحاً طيبة وأنيسة في الآن ذاته الذي تصطدم فيه وتقارع معرفياً.

دفن الراحل أوّل أمس الأربعاء في مقبرة أبو هامور بالدوحة، حيث عمل فيها أستاذاً للأدب المقارن والنقد في "جامعة قطر" بين أعوام 1993 و2004، ثم مؤسّساً لمركز الترجمة بوزارة الثقافة حتى عام 2010.

كانت هذه الرحلة الأخيرة له هنا بعد طواف طويل في العالم دارساً، حتى استسلم جسده في السنوات الأخيرة لمرض ألزهايمر، وكذلك معلّماً لأجيال ممن درسوا عليه في مدارس سورية عقب النكبة، ثمّ جامعة دمشق محاضراً بين عامي 1961 و1966، ثم أستاذاً للأدب المقارن والنقد فيها من 1970 حتى 1990، وعميداً لكلية الآداب في تعز اليمنية بين عامي 1991 و1993، قبل أن يشدّ رحاله إلى قطر. وكان آخر منصب تولّاه خبيراً ثقافياً في الديوان الأميري عام 2010، إضافة إلى عشرات المحاضرات في جامعات أميركا واليابان وفرنسا وأستراليا ومختلف الدول العربية.

ظلّ يدعو إلى وجهة نظر عربية في الأدب المقارن

كان وجوده في الدوحة ذا رمزية لمن تتلمذوا عليه طوال عقد ونصف في جامعة قطر، وأكثر من ذلك لدى أفواج من العرب وخصوصاً السوريّين، الذين عرفوه في السلك الجامعي أو قرأوا منجزه النقدي وكتاباته الأُخرى في الثقافة والتنمية والترجمة والعلاقة بين الأدب والتكنولوجيا، ومن ذلك كتابه الشهير في النصّ المفرع hypertext.

وإذ يُذكر الراحل دائماً بوصفه أحد أبرز المشتغلين في حقل الأدب المقارن، فقد ظلّ طوال مسيرته يدعو إلى وجهة نظر عربية في الأدب المقارن، وفيها يرى أنّ العرب مؤهّلون أكثر من غيرهم لأن يدركوا أنّ التاريخ الثقافي الأدبي للعالم هو في جانب منه، أي الجانب الذي يعتني به الأدب المقارن، تاريخ تفاعل وتبادل وتلاقح.

في دراسة له يقول: "إذا استطعنا أن نبتعد بنظرتنا المقارنة عن مفاهيم السرقات الأدبية وما شابهها، وتابعنا الموجات العامة لتأثيرات الأفكار والحساسيات الأدبية، وجدنا الأدب المقارن يستطيع أن يفسّر لنا جوانب مهمّة من تطوّرات الآداب القومية"، وكذا تعليل وجود الظواهر الفكرية والفنّية وتحديد القيم الجمالية.

غلاف

في طريقه الذي قطع فيه أشواطاً في بحوث المقارنة والمثاقفة، توقّف عند تأصيل المنجز العربي، فكان أولَّ من قال: "بلا مواربة وبعيداً عن الحماسة التي تُرافق كل اكتشاف وتميل بالمرء إلى إضفاء هالة على الأعمال القديمة أو المبكرة، فإنه يمكن القول إنّ روحي الخالدي هو الرائد الأوّل للأدب العربي المقارن".

يُشير في ورقة قدّمها لـ"الملتقى الدولي للأدب المقارن عند العرب" إلى كتاب الخالدي، العلَم البارز في مقتبل القرن العشرين، "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو" عام 1904، مُعتبراً أنّ تأريخ الأدب المقارن في الوطن العربي يوافق ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب.

أمّا خلال دراسته في "جامعة كامبردج" البريطانية ومن ثَمّ نيله الدكتوراه في الأدب المقارن عام 1969، فقد بدأ سلسلة غزيرة من الكتب والبحوث؛ مثل: "أبحاث نقدية ومقارنة" عام 1973، و"سبل المؤثّرات الأجنبية وأشكالها في القصّة السورية الحديثة" في العام ذاته، و"الأدب المقارن نظريةً وتطبيقاً" عام 1983، وغير ذلك كثير، وصولاً إلى كتابه الذي خطّه مع تقاعده عن التدريس في جامعة قطر عام 2004، وحمل عنوان "الأدب العربي المقارن وصبوة العالمية".

كان يُبدي أسفاً من بقاء البحث المقارني العربي حبيس الجامعة

وفي هذا الكتاب الأخير في هذا المجال، كان يُبدي أسفاً لأنّ البحث المقارني العربي حبيس الجامعات، التي هي أيضاً غير عريقة في هذا الميدان. وهنا يثبت ما كان يردّده في لقاءات ثقافية: "لعلّ كثيرين لا يعرفون أنّه أمكن إدخال الأدب المقارن في مناهج قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام 1973 فقط"، في الوقت الذي كان الفرنسيون أوّلاً يؤسّسون هذا الحقل في القرن التاسع عشر، ثم يخوضون سجالات مع رصفائهم الأميركيّين في القرن العشرين.

خارج الإطار التعليمي والبحثي، كان للراحل حضورٌ تأسيسي في حركة التحرّر الفلسطينية. لم يكن مؤازراً عن بُعد، بل كان منخرطاً في العمل النضالي منذ اجتماع قيادة "فتح" في بيته بدمشق أوائل ستّينيات القرن الماضي وأُعلنت من ثَمّ ولادةُ هذا الفصيل الفلسطيني، بوجود ياسر عرفات المهندس المدني وقتذاك في الكويت، ثم عضويته اللاحقة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وتأسيسه ورئاسته دائرة الشؤون الثقافية والتربوية فيها بين عامي 1969 و1971.

ظلّ الخطيب، حتى آخر يوم كان يستطيع فيه الكلام، جامعاً بين جملة من الالتزامات: الأكاديمية الصارمة والانفتاح الذي يمنحه الدخول في معترك عالم مقارن إنساني، وقضية فلسطين عند أمّة العرب.

غلاف

كان حذراً من ضغط أيّ عنصرية أيديولوجية، لكنّه وهو الذي يتقن الإنكليزية أوّلاً ثم الفرنسية حريصٌ كلّ الحرص على التحدُّث بلغة عربية فصحى غير متقعّرة في المجال العام، وملتزمة داخل البيت بالنطق والنحو السليمَين مع ضرورة تسلُّح أبنائه بما تيسّر من اللغات الأجنبية.

وأكثر من ذلك، فقد كان متنبّهاً إلى التطلّعات العالمية النسوية التي تسعى لتجاوز سلطات التحيّز والتهميش، فأصدر دليلاً دولياً مبكراً لطرق التعبير الصحافية والخطابية التي تبتعد عن التذكير والتأنيث.

وصفته إحدى الكاتبات المتابعات له في المشهد الثقافي في الدوحة بأنّ هناك بسمة منسيّة على وجهه. وفي هذا ما يمكن لشعور الفقد أن يعتمل، ففي أشدّ السجالات المحكمة مع مقارنين آخرين، كان صوت الكلمة المكتوبة هي صوته في الحنجرة، منافحاً عمّا يعتقده ومتّسعاً لقبول الآخر.

هو فلسطيني الولادة وسوري الجنسية، وإن اتّسعت آفاق الأدب المقارن، فإنها تشمل هذه الرحلة في جسد واحد، من وعي الطفولة في المدرسة الفلسطينية التي كان أستاذه فيها العلّامة إحسان عبّاس، إلى لجوئه وانخراطه في التدريس بمدرسة ابتدائية في بُصرى الشام عام 1949، حتى صقل معارفه الموسوعية ليصبح عَلَماً، بما كتبه وما تركه في عقول وصدور اللاحقين.

المساهمون