جعلت النقاشات حول الموسيقى الشرقية والغربية في صحف إسطنبول، بين عامي 1926 و1928، والتي شاركت فيها أسماء مهمّة مثل خليل بديع يونتكن (1899 - 1968) ورؤوف يكتا (1871 - 1935)، هذه القضية حيَّة في أعين الجمهور.
في عموده الصحافي بجريدة "وقت"، كتب رؤوف يكتا بك، بتاريخ 22 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1926، مدافعاً عن الموسيقى التركية: "سنُعلِّم الأطفال الأتراك حصرياً أعمال موتسارت وتشايكوفسكي في مدارسنا. وسننسى تماماً فنَّنا الموسيقي الخاصّ، وأسلوبنا الوطني، وعندها - ولا تضحكوا يا أصحاب العقول - سنبدأ في إنشاء موسيقى جديدة ذات ذوق موسيقي هجين ومختلط بالأرواح الموسيقية لهذه الأمم الثلاث التي استقرت في أرواحنا!".
لا يبدو من الصواب والمعقول أنّ الخطاب الذي ألقاه أتاتورك في سراي بورنو عام 1928، تعليقاً على حفل منيرة المهدية في إسطنبول، كان نقطة انطلاق مستقلّة للثورة الموسيقية التي كان المطلوب تحقيقها في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، من الواضح أن تصريح أتاتورك هذا، قد أشعل النقاشات التي انعكست في أعمدة الصحف وشكَّل مادة مهمّة لمحبّي الموسيقى الغربية.
كتب التركي يعقوب قدري قرا عثمان أوغلو، المولود في القاهرة (1889 - 1974)، في جريدة "وطن" بتاريخ 7 تمّوز/ يوليو 1941: "كان أحد الطموحات الرئيسية للمُصلح العظيم أتاتورك هو إنشاء أوبرا في بلادنا. ولتهيئة مشاعر الجمهور لهذا الذوق الفنّي الرفيع - بشكل خاطئ - ظهر اهتمام صادق بالموسيقى الرئيسية، الموسيقى العظيمة والإنسانية التي نقول عنها موسيقى أَلَفْرَنْجَا... حتى إن أتاتورك حاول إسكات موسيقى الساز لدينا من أجل حركة الميوزيك، بأطروحته الخاصة وبأساليب صارمة وجذرية. ومع ذلك، لم يجد ضرورة للإصرار على هذا الإجراء بعد ذلك. ذكاء أتاتورك الذي اختار الحقيقة بمفرده، لم يكن بطيئاً ليُثبت له أنّ لا علاقة بين هذه الموسيقى وتلك الموسيقى".
من اللافت للنظر أن يعقوب قدري يستخدم "موسيقى" للموسيقى الشرقية و"ميوزيك" للموسيقى الغربية في النص. وعندما يُقرأ كلام قدري بشكل جيّد، يُرى أنه يصف الموسيقى الغربية بأنها موسيقى "أصلية" و"عظيمة وإنسانية". وفوق ذلك، كتب أن استخدام كلمة "أَلَفْرَنْجَا" للموسيقى الغربية خطأ. كيف يمكن تفسير أنّ الموسيقى التي كان من المفترض أن يتبنّاها الملتزمون بالقيم الشرقية قد جاءت من ثقافة الغربيّين، الذين كان يُنظر إليهم على أنّهم أعداء الأتراك لمئات السنين - في المقال المنشور بالجريدة - وجيوش احتلالهم تقريباً في كلّ مكان بالأناضول إلى ما قبل خمسة وعشرين عاماً فقط؟
إحدى المعلومات التي يركّز عليها الباحثون في الغالب ويستخدمونها لتفسير آراء أتاتورك حول الموسيقى، هي المقابلة الشهيرة معه في عام 1930 التي أجراها إميل لودفيغ، المراسل وكاتب السيرة الذاتية لصحيفة "Vossische Zeitung" الألمانية. في هذه المقابلة، قال إميل لودفيغ لأتاتورك: "إذا كان هناك فنٌّ واحد لا يمكننا فهمه في الشرق، فهو الموسيقى". وقال أتاتورك: "هذه الأشياء كلّها بيزنطية. يمكن سماع موسيقانا الحقيقية عند شعب الأناضول". ثم قال أتاتورك للصحافي الذي سأل عن إمكانية تحسين الموسيقى الشرقية: "كم مضى من الوقت لتصبح الموسيقى الغربية على ما هي عليه اليوم؟"، وعندما أجاب الصحافي: "أربعمئة عام"، قال أتاتورك: "ليس لدينا وقت للانتظار كلَّ هذا. لهذا السبب، نأخذ الموسيقى الغربية".
في بداية الثلاثينيات، كانت الأقلام التي تدافع عن الموسيقى الشرقية والغربية تخوض معركة شرسة في أعمدة الصحف التركية. في عدد جريدة جمهوريات بتاريخ 7 أيار/ مايو 1933، نُشر مقال للرئيس الثاني لـ "جمعية الهلال الأخضر" إبراهيم ذاتي بك بعنوان "هل يجب إنهاء الموسيقى الشرقية؟"، وممّا ورد فيه: "إنّ الموسيقى الشرقية حطام حقبة قديمة تنشر الكآبة في كل مكان. من المستحيل سماعها بدون الكحول". وكان ردّ رؤوف يكتا بك، عضو لجنة التصنيف التابعة لبلدية إسطنبول، على د. إبراهيم ذاتي رداً سريعاً وغير عادي، لكن الكلمات القاسية المذكورة أعلاه بحق الموسيقى التركية قد أخذت، للأسف، مكانها في التاريخ. ذكر رؤوف يكتا بك في جوابه أن الشراب والموسيقى الشرقية لا علاقة بينهما، فعلى الرغم من أن الموسيقى الشرقية غير معروفة في العالم الغربي، فإن الشراب أكثر شيوعاً مما هو عليه في تركيا، ليكشف خطأ الرئيس الثاني لجمعية الهلال الأخضر منذ البداية.
بينما كانت النقاشات الموسيقية في الصحافة التركية في أوائل الثلاثينيات تزداد شراسة، فإن هذا الموضوع الذي ذكره أتاتورك في الكلمة الافتتاحية للبرلمان عام 1934 كان أشبه بإعلان انتصار رسمي لمُحبّي الموسيقى الغربية.
في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934، ضمَّن أتاتورك الجزء المتعلّق بالموسيقى للخطاب الافتتاحي للسنة التشريعية الرابعة لمجلس الأمّة التركي الكبير، وجاء في محضر المجلس: "أصدقائي، أعرف أنّكم تريدون ترقية شباب الوطن في كلِّ الفنون الجميلة. وهذا ما يتمّ القيام به بالفعل، لكن الموسيقى الشرقية هي التي يجب النظر إليها بأسرع ما يمكن وقبل كلّ شيء (تصفيق). إن مقياس التغيير الجديد للأمّة هو قدرتها على إدراك التغيير في الموسيقى، وفهمه. إنّ الموسيقى التي تُؤدَّى اليوم بعيدة كل البعد عن أن تكون جديرة بالثناء. يجب أن نعرف هذا بوضوح (أصوات برافو، وتصفيق). من الضروري جمع الكلمات التي تُعبّر عن المشاعر والأفكار الوطنية، ومعالجتها وفق القواعد الموسيقية النهائية العامّة. فقط بهذا المستوى، يمكن للموسيقى الوطنية التركية أن ترتقي وتحتلّ مكانتها في الموسيقى العالمية. وأتمنّى أن تُولي وزارة الشؤون الثقافية الاهتمام الواجب لهذا وأن يساعدها الجمهور في ذلك".
تُذكِّرنا كلمات أتاتورك بتصريحاته التي ظهرت في الصحافة عام 1928 حول منير المهدية بعد حفلتها الموسيقية. على الرغم من أنّ أتاتورك كان يحب الموسيقى التركية على موائد العشاء الخاصّة به، إلّا أنّ الموقف الذي تبنّاه بهذه الكلمات في البرلمان يُشير بوضوح إلى أنّ الموسيقى التقليدية ستُحظَر في تركيا المعاصرة. وعندما يقول: "مقياس التغيير الجديد للأمّة هو قدرتها على إدراك وفهم التغيير في الموسيقى"، فهذا لا يعني أكثر من إعلان مفتوح للثورة الموسيقية.
كان من المطلوب إحداث ثورة موسيقية تركية، والهدف الرئيسي منها هو التحوُّل من الموسيقى القديمة أحادية الصوت إلى الموسيقى متعدّدة الأصوات، وتغيير ذوق الموسيقى التركية. بعد يوم من خطاب أتاتورك في البرلمان، أي في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934، قام وزير الداخلية شكري كايا بممارسة غير مسبوقة في الإذاعة، حيث أصدر هذا التعميم: "إزالة الموسيقى التركية من البرامج الإذاعية بشكل كامل، وإذاعة المقطوعات الموسيقية التي تُعزف على الطراز الغربي فقط، من قبل الفنّانين الذين يعرفون الأسلوب الغربي".
تناولت مجلّة "الموسيقى والحركات الفنّية"، التي أصدرها في عشرة أعداد بين عامي 1934 و1935، الباحثُ الموسيقي محمود راغب غازي ميهال (1900 - 1961)، مسألة هذا الحظر: "أعلنت وزارة الشؤون الداخلية، بعد أن استلهمت توجيهات معالي الغازي مصطفى كمال، حول الموسيقى التركية في مجلس الأمّة التركي الكبير، وقد أبلغت الجهات ذات الصلة أن الموسيقى التركية ستحذف تماماً من البرامج الإذاعية اعتباراً من هذا المساء، وأنّ المقطوعات الغربية ومقطوعاتنا الموسيقية الوطنية فقط هي التي سيعزفها فنّانون على دراية جيدة بالتقنيات الغربية". في الواقع، هذا النص ليس أكثر من خبر موجز لوكالة الأناضول في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934، لكنّه لم يكن ليُنسى، في سياق تاريخ الموسيقى التركية.
في الأيام التي تُتَّخذ فيها قرارات استثنائية بعجلة غير طبيعية، يكون مصيرها ارتكاب أخطاء غير عادية أيضاً. يروي مُعمَّر صون عن وداد نديم تور (1897 - 1985)، وكان المدير العام للصحافة والإذاعة في ذلك الوقت، حول كيفية تنفيذ حظر الموسيقى التركية على الإذاعات: "في ذلك الوقت، كنتُ المدير العام للصحافة والنشر، وبعد خطاب أتاتورك مباشرة، ذهبتُ إلى وزير الداخلية شكري كايا وقلتُ له: "وفقاً لكلام الباشا، فربما يريد حظر هذه الموسيقى. إذا فعلتَ ذلك، سوف يُعجب الباشا بما حدث"، ثم قام شكري كايا بحظرها. صرَّح مُعمَّر صون بأنّ وداد نديم تور أخبره عن هذا الحدث أمام بعض الأشخاص. ومع ذلك، فإن حقيقة أن شكري كايا، الذي كان وزير الداخلية في ذلك الوقت، سيبدأ في تنفيذ الحظر في الراديو بكلمة من مدير الصحافة والنشر، لا تبدو منطقية. وفي هذا الصدد، يدعم البروفيسور جولتكين أورانساي كلام معمّر صون، ويصرِّح بوضوح أنه بعد خطاب أتاتورك، وافق الوزير على اقتراح المدير العام للصحافة والإذاعة بحظر بث الموسيقى التركية الكلاسيكية على الراديو، وأنّ التنفيذ بدأ على عجل في ذلك اليوم نفسه.
على أنه من المستحيل أن يكون هذا الحظر من دون علم أتاتورك.
* مؤرّخ موسيقي تركي
** ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير