استمع إلى الملخص
- الكتابة تتطلب معرفة عميقة بالإنسان وتعتبر بصمة شخصية لكل كاتب، حيث لكل كاتب طقوسه وأدواته الخاصة، مما يجعلها مهنة تتطلب حساسية عالية.
- ورش الكتابة بالعربية تسعى لتأسيس تقليد خاص، لكن يبقى على الكاتب أن يكتب بنفسه، مع الحاجة لنقاد يضعون النصوص في سياق أوسع.
الفنّ من المفاهيم التي يعوزها التعريف دائماً، إذ لا يوجد تعريف جامع له. ويأتي هذا التعذّر وغياب التحديد من طبيعته نفسها، ومن نسبيته، وأحياناً من الانقلاب اللازم على قوانينه. بطبيعة الحال، لفن الرواية تعريفات مرتبطة بالمكان والزمان والحبكة، على الأقل. لكن هذه التعريفات جميعها لا تحسم انتماء نص بذاته إلى فن الرواية أو تحقيق تميّز فيه. إذ يمكن أن تكون الرواية عكس ما اتُّفق عليه. هذا احتمالٌ قائم دائماً، وبالإمكان أن تأتي رواية جديدة بقوانينها الخاصَّة، وتفرض انتماءها على الرواية. فحُكم الفنّ، منوط بالكتابة نفسها، وبالتجارب التي يعرضها الكُتَّاب في الثقافات المختلفة، وبالطريقة التي يعرضون وفقاً لها حكاياتهم.
بالقليل من المجازفة في تصوير المجاز اللغوي تصويراً ماديّاً، يمكن التعدّي والقول إنَّ الكتابة أقرب إلى الحرفة اليدوية، وهي تُقابل مهناً مثل صائغي الذهب، أو الدَّباغين الذين يعالجون الجلود. لكنها حرفةٌ لا تكسو جسداً، بل تجوهر المعنى الإنساني، ثمَّ تعرضهُ مكشوفاً. وهي عمل يفوق معرفة اللغة وإمكانيات استخدامها، إلى معرفة الإنسان، وصور اضطراباته... إنَّها مهنةٌ من طين الحياة، من دنسها ومن مباركاتها. حتى إنَّ طبقات السرد تشبه النفس التي تبدأ بما هو ظاهر، وتنتهي بالأعماق المجهولة، غير المدركة، التي لا يمكن أن يحيطها نص واحد، أو كاتب واحد، مهما بلغ من العبقرية.
استمراراً بتصوير ما هو لغوي تصويراً ماديّاً، فالأمراض التي تسبّبها الكتابة، هي ذاتها الأمراض التي تسبّبها مهنٌ تحتاج الجلوس لساعات طويلة. مع ذلك، أظن الكتابة أكثر ما تُقارب العمل بالصلصال الطيني، لكنه صلصال شفيف، يقتضي من الكاتب أن ينمِّي حساسيته دائماً، وأن يحافظ على الحسّ السليم في استقبال الوجود بقدر ما يستطيع. الكتابة مهنة إذاً، لكنها تتعذَّر على الحصر في تقاليد ممارستها، ويتعذر على الكاتب الحقيقي أن يتّبع تقاليد كاتب آخر. إنَّها أشبه بالبصمة، وهي أشبه بالمصير. ولا أدلَّ على حادثة موت الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال (1914 - 1997) على هذا التفصيل بالضبط، إذ مات بالطريقة التي كان يقتل فيها أبطاله؛ سقوطاً من النافذة وهو يُطعم الحمام. المؤكد، أنّ لكلِّ كاتب طقوسه، لكلّ كاتب أدواته ومفرداته. لديه ما يقبل بهِ، وما يرفضه. ولديه وحده مفردات مصيره.
تُقارب الكتابة العمل بالصلصال لكنها تقتضي تنمية الحس السليم
لكن هذا الفنّ الذي يتعذّر على التعريف، يجد في السنوات الأخيرة ورشاً لتعليمه بالعربية، طريقةٌ لا تزال تبحث عن تقليدٍ خاصٍّ بها، وهو أمر شائع في الثقافات الأُخرى. وفي المبدأ، يُمكن لأحدهم أن يتعلّم بعض القوانين عن ضبط الحبكة، وعن تطوير الشخصيات، وعن لغة الحوار، وعن تعدد الأصوات. حتى يمكن مساعدة "المتدرّب" على اختيار الموضوع وإيجاد سبيل للبدء بهِ، واقتراح لاحتمالاته، وتغليب احتمال على آخر. هكذا، وصولاً إلى النهاية. لكن المؤكّد أنَّ عليه أن يجلس ويكتب بنفسه.
هذا التعلّم وارد. ولا يُمكن أن يكون المرء ضدَّه. لكن من السائد الاعتراف أيضاً بأنَّ الكاتب الكبير؛ يبدأ كبيراً. لأنَّه يأتي بشُعلته معه، شعلته التي تكويه، التي تلحّ عليه، وتحرقه، وأحياناً تحرق حياته نفسها. أقصد، قد يلتصق مسار الكتابة مع مسار العيش. وهذا أمر شاق، قِلَّةٌ مَنْ يستطيعون معه صبراً.
دور آخر - من بين أدوار عديدة - ينقص الرواية العربية، إلا أنَّه دورٌ كان موجوداً، ويكادُ يختفي، وهو دور الناقد؛ إذ لم يقدر النقد العربي على صنع تقاليده. واليوم، يكاد يغيب ذلك الناقد الذي يضعُ نصاً في سياقٍ أوسع، فيعرض أهميته، ويحدّد موقعه ضمن نوعه، وفي ثقافته ككلّ. لا يزال تعليم الكتابة، يبحث عن تقاليد. إلا أنَّ الأدب العربي، وجدَ نفسه في حلٍّ من النقد. وكأنَّما هناك أدوار تنمو على حساب أدوار أخرى، هكذا هي الدنيا، وكأنَّما هذا عصرُ تعليم الكتابة، عوض اجتراحها من الداخل بكلِّ آلام الاجتراح وإشراقاته. بغياب النقد الجديّ، مَنْ يستطيع أن يحكم؟
* روائي من سورية