رحلَ الشاعر العراقي عبد الأمير جرص (1965 - 2003)، إثر حادث درّاجةٍ هوائية في منفاه الكندي وهو في التاسعة والثلاثين من عمره. وكان عبد الأمير، كما يروي نجوان درويش في مقدّمته لأعمال جرص الشعرية، التي صدرت في القدس المحتلة عام 2017 عن "دار الفيل"، قد سلّمه قبل سفره إلى كندا، كتاباً يضمُّ أعماله الشعرية الخمسة بعنوان "مختار الفصول الخمسة"، على أن يصدر هذا الديوان في حينه، لكنَّ ملابساتٍ كثيرة أجّلت صدوره إلى ما بعد عقد ونيّف من الزمن بعد وفاته.
خرج الكتاب بمقدّمة نجوان وبالأعمال الخمسة وإن بعنوان آخر هو "حتّى وإن متُّ". من الواضح أنَّ العنوان يبني على فاجعة رحيل جرص شاباً، وإن فهمنا من مقدّمة درويش أنّه لم يتوقّف عنده، فقد كتبَ وهو في كندا أعمالاً أُخرى، ستأخذ طريقها إلى النشر.
"حتّى وإن مت" مع ذلك يبدو مُتكاملاً إلى حدٍّ مُدهش. منذ القصائد الأولى في مجموعته الأولى "قصائد ضد الريح"، تعلو نبرةٌ تبقى في قسوتها وعنفها وتحدّيها واعتراضها ونقدها حتّى آخر المجموعات "جبال لا حول لها ولا قِمّة". بدأ الشعر من غضبٍ وإنكار طبعا بداية القصيدة الحديثة، وبخاصّة قصيدة النثر التي تطغى على شعر عبد الأمير جرص. يكفي أن نذكر استهلالها - أي قصيدة النثر- بمجموعة "لن" لأنسي الحاج. لكن شعر عبد الأمير يبسّط هذا الغضب على كل ما يحظى باعتبار وقدسية في الحياة. إنّه يرجم ويلعن منذ البداية، كل ما يرادف الرقة والحنان والعواطف، ما يتصل بذلك وما ينتج عنه.
يبدو "حتّى وإن مُت" عملاً مُتكاملاً إلى حدٍّ مُدهش
"كلامكِ الحلو سَوَّسَ حياتي"، سيكون الشعر هنا بمثابة تنديدٍ عاصفٍ بكلّ هذا الكلام الحلو في شتّى عناوينه ومنعطفاته ومواضيعه ليكون "حيث العواطف عرضة للتفتيش"، وحيث الطفولة "نحن الأطفال، نجد دائماً ما ينكسر"، وحيث الحبّ نفسه مدان مكروه "أَحلم بك أَيتها العَلَقة/ يا مُضغة/ أَحلم بك، تصيرين عظاماً/ أَحلم بعظامك يكسوها اللحم/ وأُحبّك/ أَيتها اللحم/ يا عظمنا/ أُحبّك ككلب". وحيث "الوطن وحبيبته الحرب التقيا خلسةً"، وحيث "أوطان كثيرة لن تجد مكاناً"، وحيث الأخوة لا تكفي: "بالقطار سافر أَخي إلى نفسه"، وحيث الأجداد مدانون: "أَجدادنا البدو، كانوا يربّون الصحارى في بيوتنا/ لقد قسّمتنا الصحارى إلى قبائل/ وها نحن نتشاجر".
الأمهات هنّ أيضاً كما الأمومة يتعرضن لإنكار: "ما زلنا نبحث عن أمهاتنا ما زلنا نراهن في في الأحلام". وليس التدين الشكلي بعيداً عن هذا الرفض: "أنت أكبر من جوامعهم". العائلة ليست بعيدة عن الرجم: "وأنتِ أيضاً يا أمي أيّتها العاقر/ كم حبلت بغيري وكم تعسّرت بي"، و"كوني يا أُمي أُماً/ لكلِّ هذا التفسخ".
أمّا الحبّ موضوع الشعر الأول، فينتهي في مجموعة كاملة عنوانها "السماء التي لم أرفعها" إلى ما يعادل هذا العنوان من نفي وتنديد: "شكراً، لأَنني أُحبّكِ/ شكراً، لأَنني لا أحبّكِ/ شكراً، لأَنني أكتب لكِ/ شكراً، لأَنني لا أَكتب لكِ/ شكراً، لأَنني أَقف على أَطلالكِ/أَتغزّل بكِ/ أَهجوكِ/ أَرثيكِ/ أَمدحكِ/ حتى وأَنت مدينة لي/ أَشكركِ لأَنكِ مدينة لي". وفي قصيدة "إهداء": "لا أَدري لماذا أَظن بأَنني خير أَعدائكِ وأَفضل من يكرهكِ في هذا العالم/ ربما لأَنني أَكرهكِ بِحُب" أو حين يكتب: "أَنا حقّقتُ خسارتي/ حقّقت ما عليّ أَن أَخسره/حقَّقتكِ...أَنتِ التي عليَّ أَن أَخسرها دائماً". يقول أيضاً: "لقد جعلتني – أُحبّكِ – وهذا عندي غاية التوحّش ومنتهى اللاإِنسانية".
وكما ينكر الحنان، يُنكر أيضاً الوجدان كلّه:لا أُحب المنكسرين ولا أَحترم دموع أُمي تلك التي انسكبت أَمام أَول ريح اقتربت من مصيري". ومن نقد الحب إلى نقد الشهوة والجنس: "تلك الحقيقة الواقعة بين فخذين" أو "ناقماً وساخطاً على بكارة ما أَو على نهدِ لا يروي بساطتي كرجل عاش بين فخذين/ منقسمين على حالهما".
قصيدته مفاجئة دائماً وصوره اجتراحٌ بحتٌ وتغريبٌ جَسور
ومن نقد الحب إلى نقد الإنسان برّمته: "إِنّني أَتغاضى عن كل ما هو بشر/ومرّات/ أَتغاضى عني/ أَنا الإنسان الجالس على مائدة العالم/ وفي انتظار وجباته الثلاث".
ومن كل هذا الاعتراض والنقد، يصل الشاعر إلى نفسه، فنقع في رفض الشعر ونقده: "مرّات أُضيفُ إلى القصيدة/ كلّ ما لا ينبغي أَن يكون عليه الشِّعر/ ومرّات أَحذفُ منَ القصيدة كلّ ما ينبغي أَن يكون عليه الشِّعر".
ومن الشعر إلى نقد اللغة: "إِنّ من أَهم وظائف اللغة، أَنها ليست للتوصيل ولا للتخاطب، بدليل أَنني لست اسماً/ أَنت لا تمحوني بالحبر الأَبيض، ربما بالمسدس يموت الإِنسان/ ولكنه بالتأكيد لا يمحى".
لا تقف جملة جرص هنا، إنَّ شعره لا يكتفي بالرفض، إذ إنّه يفصّل هذا الرفض ويوزّعه على موضوعات وعناوين. ذلك يجعلنا أمام قصيدته التي هي دائماً مفاجئة، تجربته في الشعر هي دائماً هذه المفاجأة. إنّه أحياناً الشاعر بامتياز، وصوره في جانب كبير منها اجتراح بحتٌ وتغريب جَسور، لكنّه في جانب من هذا الشعر داعية ومحرّض، بقدر ما هو ذهني. الأفكار تشي غالباً بذات الغرابة التي تشي بها الصور.
شعر جرص لذلك يتجاوز الشعر، يقفز أحياناً عليه ويتخطّاه في أوقات، في ما يبدو دونه في أوقات أخرى. إنه الشاعر بقدر ما هو الداعية. إنّه يصل إلى مزيجٍ يباغت أحياناً، لا في غرابته وتمرّده فقط، ولكن أيضاً ببساطته وعاديّته، بل هو في مقاطع له يصل إلى نوع من تعريف الشعر نفسه، على نحو لا يخلو من الجدة فيقول: "الشاعر ليس وثيق الصّلة بشيء/ وليس له علاقات وطيدة/ إِنه لا يركن إِلى أَي شيء/ ولا يستقرّ على أَي شيء/ ليس لأَنه عبثيّ ومنفلتٌ – كما يظنّون – بل لأَنه يعرف حجم زواله". ويقول في نفس القصيدة التي تحمل عنوان "تنظيرات :إِنني أَكتب: لأَظلّ قريباً من موتي/ أَكتبُ لئلا أَبتعد عن حقيقة كوني: المغفور له الشاعر عبد الأَمير جرص (رحمه الله)".
ويضيف: "أوه، أيّها الشاعر كم كنت مهمّاً حين كان العالم مهمّاً/ وحين كان الإِنسان مهمّاً أَيضاً".
كلام جرص عن الشعر يتمثّله الشاعر أحياناً في قصائده، وينزلق عنه أحياناً أخرى. مجموعات جرص الخمس تبدأ متّصلة ومتكاملة، لكنّها باستمرار تشعر بأنّها مقدّمات لعملٍ أهمّ وأوّسع، ولشعر في مستوى تعريفه ومشاغله. قد يكون هذا العمل هو ما أنجزه في كندا، وما ينتظره كما وعدنا نجوان درويش في المقدّمة.
*شاعر وروائي من لبنان