"ثمة شيءٌ شيطانيّ في داخلي يجعلني أستمتعُ بتدمير الأفكار التي كوّنها الآخرون عني، وإظهار كم أنا أنانيٌّ ومتكبّر ومتهوّر". هذه واحدة من الرسائل التي بعث بها الكاتب والشاعر الأيرلندي جيمس جويس (1882- 1941)، وعمره 22 عاماً، إلى فتاةٍ تدعى نورا بارنكلي، كان قد تعرّف إليها للتوّ، تحديداً في العاشر من أيلول/ سبتمبر 1904، يبرّر فيها غطرسته عندما طلب من الفتاة نفسها، في رسالة سابقة أن تتخلى عن الحياء والستائر الحميمية المُصطنعة: "لماذا ترتدين هذه الأشياء اللعينة، فأنا لا أحبّ معانقة الصناديق".
لم تكن تلك السنة عادية على جويس، بل كانت على العكس تماماً، حاسمةً جداً في حياته الشخصيّة والمهنية. ففيها سيتعرّف إلى نورا، التي ستكون حجر الأساس في توازنه العاطفي، كما أنّه سيغادر معها في السنة نفسها خارج أيرلندا، وسيبدأ مرحلة من عدم اليقين، والحيرة، والعقبات، والترددات التحريرية في حياته المهنية ككاتبٍ، وسيتحتّم عليه أن يعيش بتناغم كاملٍ مع طبيعته الأخلاقية، لذلك سيجد نفسه في كثير من الأحيان يناضل، بشكل يائس، ضد التقاليد، والأحكام المسبقة، والمحرمات الجنسية، وضد بشرٍ لم يكن همهم إلّا العيش بلا ديون وبأقل قدر ممكن من المتاعب والتعثّرات. لكن جويس كان واعياً لطبيعة الوجود الإنساني، ولطبيعة البشر، لذلك سيواجه الوضع بإرادة حديدية، وسيواصل بكبرياء ويتمكّن من إنقاذ إبداعه من "غباء وقصر نظر" المجتمع الذي عاش فيه.
كلُّ هذه التفاصيل وغيرها سيتعرّف إليها القارئ في كتاب "الرسائل 1900- 1940"، الذي صدر بالإسبانية مؤخراً، بمجلدين، عن دار نشر "باخيناس دي إسبوما" الإسبانية، بترجمة من الإنكليزية وتقديم للمترجم دييغو غاريدو، الباحث المتخصّص في أعمال صاحب "يوليس".
شخصية معقدة وفظة، لكنه ظل محبوباً بسبب أعماله
يجمع المجلد الأول الرسائل التي تبادلها جويس بين عامي 1900 و1920 مع كلٍّ من الكاتب النمساوي ستيفان رفايغ، والشاعر الأميركي عزرا باوند، والبريطاني ويليام ييتس، والإيطالي إيتالو سفيفو وغيرهم الكثير، إضافة إلى المراسلات التي تبادلها مع نورا منذ أن تعرّف إليها، باستثناء تلك التي كتبتها هي وقرّرت بنفسها أن تحرقها بعد موت زوجها، ربّما بسبب النبرة شبه الإباحية التي كانا قد استخدماها مع بعضهما عندما كانا يعيشان، كلٌّ منهما، في مكان مختلف.
تبرز في هذا المجلد الأول أن كتابة الشعر، بشكل أو بآخر، كانت مرتبطة باهتمامه بالمال، حيث عانى بشكلٍ واضٍح من نقص ماليّ طارده في شبابه. أمّا المجلد الثاني من الرسائل، فيتناول تلك التي كتبها جويس بين عامي 1920 و1941، وصولاً إلى آخر بطاقة بريدية كتبها إلى أخيه في الرابع من كانون الثاني/ يناير، قبل أيامٍ قليلة من مرضه الذي تسبّب برحيله في الثالث عشر من ذلك الشهر نفسه، حيث قال له فيها بشكل واثق: "عزيزي جيم، بكل تأكيدٍ هذه هي الكلمات الأخيرة التي ستستلمها مني".
يجمع المجلدان ما يقارب الألفي رسالة، ويهدف مترجم العمل ومحرّره كما يقول في مقدّمته، إلى "إثبات أن أعمال جويس لا تزال صالحة تماماً للجميع. قد يستغرب القارئ عندما يجد جويس معقداً وفظاً نوعاً ما، وإذا كان محبوباً، فليس بسبب أفعاله أو شخصيته، بل بسبب عمله الذي لا يزال قائماً إلى يومنا هذا".
تبقى هذه الرسائل التي تُنشر كاملةً للمرّة الأولى باللغة الإسبانية عملاً مثيراً للاهتمام، لأسباب عديدة، أهمّها تفوقها على النسخة الإنكليزية التي دوّنها الناقد الأميركي وكاتب السير الذاتية ريتشار إلمان، الذي يُعتبر أبرز من دوّنوا سيرة جويس. وقد أشار المترجم في مقدمته إلى ذلك، حيث أثبت في كتابه مواقف ورسائل تُعرف للمرّة الأولى، كما أنه ترك نصوصاً حميمية من مراسلات جويس مع نورا، عادةً ما كانت تُحرّر ويُحذف منها الكثير، لكن دييغو قرّر أن يتركها على حالها، لأنها، وكما يرى، تتوافق مع الطبيعة الأدبية والأخلاقية للكاتب، كما أنها تتوافق مع قوة مشاعره وحيويته.