في يومٍ من الأيام، قرّر الشاعر جوليان بلين إجراء مقابلةٍ مع فيَلة. حدث ذلك عام 1963، في سيركٍ جنوب فرنسا. وكما في المقابلات الجدّية، فقد حدّد بلين موضوع الحوار وحضّر أسئلته بشكل مُسبَق، وجاء إلى الموعد ومعه مسجّل صوت. يقول: "كنت أتحدّث، بينما الفيلة تُصدر نهيماً من حين إلى آخر، مُجيبةً بذلك عن سؤالي، كما لو كنّا في نقاشٍ عاديّ. وعندما عدتُ إلى بيتي، أعدتُ الاستماع للتسجيل، وقمتُ بتسريع وتيرة الصوت، وحينها حدثت المعجزة: فبينما بات كلامي غيرَ مفهوم، صار نهيم الفيَلة مفهوماً. بالتأكيد، لم تكن الفيَلة تتحدّث بواسطة الكلمات ــ حتى ولو أن المرء يحسب، لوهلة، أنه يسمع كلمةً من هنا أو أُخرى من هناك ــ بل من خلال صيَغ التعجُّب أو مُحاكاة الأشياء بالأصوات. أحسستُ حينها بأنّ جسراً ما قد بُني، وبأنني قد أعدتُ عقْد التواصل بين العالَم المفقود والعالَم المعاصر. أقصد بذلك إمكانيةَ إعادة عقْد العلاقة بين اللغات الأصلية، المنسيّة، التي يمكن لها أن تغيّر على نحو جذريّ علاقتنا بالعالم، ومن جهة أُخرى، الانخراط في ذلك التقليد الطليعي الذي يمتدّ من أبولينير إلى حركة 'كوبرا' الفنّية(1)، مروراً بلُغة الزاوم (Zaoum) التي ابتكرها خليبيكوف(2)".
ومنذ بداياته، ترك جوليان بلين أبجديته الخاصّة مفتوحةً على تدفُّقٍ وتغيُّر دائمَين، من أجل أن تغتني بكلّ صورة وصوت وملمس ورائحة يمكنها أن تغذّيها وتُساعد على جعلها حيّةً وقابلة للتطوّر إلى ما لا نهاية له. هكذا يكونُ شِعرُ جوليان بلين في حركة دائمة وفي إعادة تشكيلٍ مستمرّة للعالم، رفقةَ العالَم. والأمر يعود إلى عام 1956، عندما كان الشاعر في السادسة عشرة من العمر، وكتب قصيدة وتركها في الخارج لعدّة أيام، واضعاً إياها بين يدَي المطر وغيره من عناصر الطبيعة. كان ذلك النصّ مؤلّفاً من من سؤال واحدٍ مقطَّع، بحيث يكون على القارئ أن يتخيّل مغزاه: "... حَدَثَ لي..."، ما الذي حَدَ...". "ما الذي حدث لي...". بعد طرح هذا السؤال، سيكون على المرء أن يُجيد الإنصات إلى البيثيات، كاهنات الإله أبولو في الأساطير اليونانية، والاستماع إلى السفنكسات، تلك الوحوش المؤنّثة في الأساطير نفسها. هكذا يتملّك القارئُ القصيدةَ بإكمالها، مرافقاً الشاعر في رحلة بحثه. وهكذا يصبح، رفقة الشاعر، وسيطاً روحياً وهو يعيد ابتكار كلامه.
يُهندِس بلين مواقفَ يختلط فيها التهريج بالتراجيديا
اليوم، يُكمل جوليان بلين مشروعه الشعري ليس من خلال عرض أعماله هو، بل عبر عرض أعمال وضعتها حيوانات. ففي الخريف المنقضي، كان بإمكان العابرين من أمام أحد غاليريهات مدينة لا سيوتا، المطلّة على البحر المتوسّط جنوب فرنسا، أن يكتشفوا إبداعات الشمبانزي كونغو، المقيم في إحدى حدائق الحيوان بلندن؛ والخنزيرة المسمّاة بيغكاسو، القادمة من جنوب أفريقيا؛ والدغفل، أو صغير الفيل، نونغ ثاناو، القادم من تايلندا؛ والكلب الكندي هنتر؛ والدبّ البنّي جوسو، المقيم في حديقة حيوان بهلسنكي؛ والأخطبوط بولبو، وهو من رأسيّات القدَم التي تعيش في البحر المتوسّط، والذي يرسم بحبره أعمالاً حروفية من خياله.
ثمّة، بالتأكيد، قهقهةٌ تتولّد داخلنا ونحن نرى هذه الحيوانات تقلّدنا بحنكة كبيرة، وكأنها قد سمِعت بنصيحة روتبيتر، أو القرد الأحمر، في قصّة كافكا "تقريرٌ لأكاديمية": "لم تكن لي رغبة بتقليد البشر. كنت أقوم بذلك لأنني أبحث عن مَخرجٍ ما. ذلك هو السبب الوحيد". قهقهةٌ تصدح لكنّها تقترب من التراجيديا حينما نفكّر بأن هذه الحيوانات جرى ترويضها إلى درجة باتت معها تقلّدنا وتنسخناً تماماً حتى في واحدٍ من المجالات التي نعتبرها نبيلةً، وهي تُحافظ، في الوقت نفسه، على صِفتها التهريجية بالنسبة لنا. قهقهةٌ وتراجيديا تشتدّان حينما نرى أن هذه اللعبة، لعبة التقليد، تتحوّل إلى مرآة يرى فيها بعض البشر أنفسهم، ولا سيما هؤلاء الذين يتبجّحون بـ"سيادتهم كفنّانين"، في حين أن الجميع يعرف أنّ المؤسّسات هي التي تتحكّم بهذه السيادة وتملي عليها ما تشاء.
غالباً ما يُهندِس بلين مواقفَ يختلط فيها التهريج بالتراجيديا، بحيث يُنتِج هذا الاضطراب ما يشبه الصفحة البيضاء في الذهن: مساحةٌ يمّحي فيها كلُّ يقين، وتُتيح للقارئ إمكانية فهم تجارب جديدة من وجهة نظر جديدة. هكذا، ما أنْ نتجاوز الجانب الغرائبي والمُدهِش في المعرض، وكذلك الجانب الفكاهيّ للموضوع، حتّى نجد أنفسنا أمام قضيّة مُقلِقة: فالحيوان الذي يُفترَض أنه فنّان ــ إنْ كان عبر انتحاله لصفة الإنسان أو عبر لعبه لدورٍ يصمّمه له البشر ــ ليس إلّا صورةً عن الدور الذي تدفعنا السلطةُ إلى أن نلعبه، أي أن نكون خَدَماً لنظام يُخضِع الفن لمنطق السوق والتسلية والبروباغندا، ما يعني أن الفن، بدلاً من مُساءلة لغة الهيمنة، يتحوّل إلى داعمٍ لها.
يتجاوز بشعره كلّ ما يفصلنا اليوم عن عالَم الحيوان
لكنّ بلين، إلى جانب هذا البُعد النقدي في معرضه، يستحضر شيئاً آخر ــ شيئاً نعثر عليه في كلّ أعماله منذ تلك القصيدة التي وضعها تحت سُلطة المطر: أي ضرورة إعادة عقْد الصلة مع المُلغِز. وإذا سلّمنا بأن جميع الحيوانات تقريباً في هذا المعرض مجرّد دمى في يد الإنسان، فإنّ علينا، رغم ذلك، أن نسلّط انتباهنا على العلاقة بين الشاعر والأخطبوط: ذلك أن الاثنين منخرطان في منطقٍ تبادليّ هدفه أن يستطيع كلٌّ منهما فهمَ الآخَر. والشاعر، عبر هذه الحكاية، يقترح علينا ما لا تمكن كتابته. ربما لأن على كلّ واحدٍ منّا أن يخترع كلامه الخاصّ، كلاماً لا يتوقّف عن الحركة، ينتقل بين الأزمنة (الماضية والحاضرة والمستقبلية) ويتجاوز كلّ ما يفصلنا اليوم عن عالَم الحيوان، ليعثر على آثارٍ وعلاماتٍ ــ بالكاد تُرى، أحياناً ــ لحوار لم يمت يوماً، بل جرى إسكاتُه فقط. هذا، على الأقل، ما تُحيلنا إليه حوارات الشاعر مع الأخطبوط الملغِز المسمّى بولبو. ألا يقول جوليان بلين: "ليس علينا أن نؤمن بالعلامات، بل أن نُجيد قراءَتها"؟(3).
1. اختصار لكوبنهاغن وبروكسل وأمستردام؛ وهي عبارة عن حركة فنّية طليعية تعرّف نفسها بأنها تجريبية، ومضادّة للدوغمائية، وقريبة من الفنون الشعبية.
2. تُبتكَر لغة الزاوم وفقاً للنحو الذي تتداخل فيها العواطف والأحاسيس، وهي لغةٌ ترفض كلّ نظام قواعدي أو أسلوبي أو دلالي. ابتكر هذه اللغة، عام 1913، الشعراء المستقبليون الروس فليمير خليبنيكوف، وأليكسي كروتشينيخ وإيليا زدانيفيتش.
3. انظر إلى كتاب جوليان بلين "حيوانات وفنّانون" (2022، منشورات Les presses du réel).
* ناقد فرنسي يكتب لـ"العربي الجديد"، ترجمة: محمود الحاج