"جمهورية الثقافة".. حتى لا تتحوّل إلى حوار صُمّ

20 مارس 2023
باتت برامج الثقافة الجادّة عملةً نادرة على التلفزيونات العربية (Getty)
+ الخط -

برامجُ الثقافة النقديّة، في مشهد التلفزيونات العربيّة، عملةٌ نادرة، صَنْعَتها متعثّرة، تُكافح ضدّ المحاور المستهلكة ويكاد يتعذّر فيها التألّق، تتوجّه إلى مُشاهِد مَلولٍ، تسحقُه أزماتُه المعيشية اليومية، ولدى الناجين منهم ميول أيديولوجيّة مُتباينة وآفاق انتظارهم مُتقلّبة. 

وفي غمرة هذه التحدّيات البنيوية، ظهر سنة 2017 برنامج "جمهورية الثقافة"، وهو لقاءٌ حواري يُعرض على "القناة الوطنيّة التونسية الأولى"، ويَجمع المُقدِّم عبد الحليم المسعوديّ (كاتب وناقد مسرحي وجامعي تونسي) بضيوف ينتقيهم من بين المثقّفين والأدباء والكُتّاب التونسيين. وفيه يتناول مشاغلَ الناس "الاجتماعية والثقافية والسياسية"، ويحلّلها وفقَ منظورات الحداثة والهاجس التنويري. ولعلّ في العنوان أصداء مِن كتابه "جُمهورية الحمقى" الذي ظهر في نفس سنة 2017، في ما يُشبه النقد لما آلت إليه الأحداث في تونس بعد تأزّم مساراتها الثورية، على أمل أن تُسهم الثقافة في رفد هذا النظام المدني وتوجيهه وأن تقول كلمةً تُسمعُ في ضوضاء الساسة والمتحزّبين.

تقوم بنيةُ هذا البرنامج، ومُدّته ساعةٌ أو تزيد، على الحوار وطرح أسئلة حول الشّخصيات والقضايا والمفاهيم الجدلية في تاريخ تونس وآنِها، بغاية استكشاف جوانبها وتحليل مكوّناتها. وينعقد النقاش مع طيفٍ واسعٍ من الأساتذة الجامعيّين، ولا سيما الذين تلقّوا تكوينهم في كلّيات الآداب واللغات والفنون، وسائر العلوم الإنسانيّة؛ بهدف اجتراح مقاربة نقدية تتسلّح بمفاهيم هذه العلوم، وتطبّق شبكاتها التأويليّة على الظواهر المدروسة، ليُدلي بذلك المثقّفون بِدَلوهم في صنع التاريخ وإعطائه معنىً مُختلفاً عما تغرقنا فيه جَلبة العولمة وحسابات السياسات الداخلية. 

مُصادرات معرفية يصعب تبسيط لغتها لعموم المُشاهدين

ورغم اجتهاد المسعودي في انتقاء مُعضلات فكريّة ذات خَطر، كمُعضلة القداسة والفنّ والتنوير والتراث، وتقديم موادّ دسمة عنها، ورغم تحرّيه في اختيار ضيوفه من ذوي الكفاءات والاختصاص، فإنّ الحلقة، وهي تسير على نفس النمط، قد تغيب فيها الصياغة العقليّة الهادئة للفكرة والتعبير الدقيق الواضح عنها، بل قد يتحوّل البرنامج إلى "دردشة"، أو إلى مونولوغ يجري بحسب أهواء المناقشة وتموّجاتها، لا على إيقاع التحليل المنطقي المتدرّج الذي يربط النتائج بالمقدّمات.

كما تعاني هذه الحِصص من تمزّق "بِنيويّ"، بين السعي إلى اجتذاب الجُمهور الباحث عن الراهنيّة والإثارة، وبين التعمّق في قضايا الثقافة التي تستلزم عَدم الانجرار إلى المشاغل الآنيّة، ولا الرضوخ إلى صَخَب العابِر من الأحداث والمتفجّر منها. وهكذا تضيع فِقَرُ هذا البرنامج في متاهة المفارقة الصعبة: إما النّزول إلى المشاغل الآنيّة للناس، والغَرق في خضمّ التفاصيل الحياتية الجارفة، أو الارتفاع إلى الأفق الفلسفي الذي يقتضي اتخاذ مسافة نقديّة، وحتّى شيءٍ من التعالي من أجل النفاذ إلى جذور المعضلات، وهذا هاجسُ كلّ برنامج يَسعى في ذات الآن إلى اجتذاب الجمهور وإلى تَوفية الفكر الفلسفي حقّه.

من جهة ثانية، يكمن إشكال "جمهورية الثقافة" في نوعيّة المُتلقّي، وكيفية استقباله لمضامينه المعرفية وخياراته المنهجية، فلعلّ جزءاً من هذا الجمهور لا يملك الآليات المفاهيمية والتصوّرية الكافية لتمثّل آراء الضيوف وأطروحاتهم، ولا سيما أنّها محسوبة على التيارات الحداثية، وهو وصف يُطلق على الداعين إلى نَزع القداسة عن التراث الديني، وإعادة قراءته قطعاً مع معياريته المرجعية، كما قد لا يستوعب هذا المُشاهد البراهين المعروضة لتفكيك القضايا المناقشة، مما يُوقعه في سوء فهمٍ، بل وفي التجنّي عليهم واعتبارهم من "العِلمانيين" الذين يقترنون في المخيال الجمعي "بمُعاداة الدين".

وتتجلّى هذه الهُوّة بين الجمهور والبرنامج حتّى حين يتناول قضايا أقلّ حساسية، كمسائل الأدب ومناهج الفنون وعلاقتها بالواقع، بسبب عدم تمثّل المصادرات النقدية التي يعتمدها الضيوف وهي مُصادرات يصعب تبسيطُها إلى مُشاهدين لم يتلقَّوا أدنى تكوين أدبيّ، ويعسر توضيح مضامينها للعموم في حيّز زمنيّ ضيّق. وقد سمعتُ أحد أساتذتي الناقد والروائي حسين الواد يقول إنّ أكبر خطأ ارتكبه في حياته كان حضور "بلاتو" ثقافي، أبان فيه المقدّم عن ثقافة هزيلة ولم يستَوعِب مشروعيّة تطبيق منهج الشكلانيين الروس وجماليات الفيلسوف الألماني ياوس على أبي الطيّب المتنبي وبشار بن برد. فَفشِلت الحصّة تماماً واستحال النقاش إلى حوار صُمٍّ وذهبت هدراً تدخّلاتُ الواد وتنظيراتُه.

وهكذا، تظلّ البرامج الثقافيّة في التلفزيونات العربيّة من أكبر الرهانات الحالية أمام هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وطغيان برامج الإثارة الرخيصة، وجلّها مُقَلَّدٌ عمّا يجري في الإعلام الغربيّ. ولا شكّ أنّ "جمهورية الثقافة" قد نجح إلى حدّ ما في الصمود والانتظام مكافحاً تفاهة البرامج الاستهلاكية، وموجّهاً لاحتياجات جُمهور متقلّب الأهواء. كما حرص على عرض القضايا الفكرية بشيء من الأصالة، تُسعف، في ذلك، عبدَ الحليم المسعودي ثقافةٌ واسعةٌ وتجربة ثريّة في عالم التواصل السمعي - البصري كما في التأليف الجامعي. إلا أنه اجتهادٌ يَشي بعُسر العمل الثقافي في الوطن العربي وبضراوة صراعه مع قُوى التكلّس، في ظلّ غياب أيّ مشروع فكري يجمع مثقّفي الأمة لتفكيك تحدّيات التراث وانفلات قيم المعاصرة، وفي ظلّ غياب سياسة ثقافية واعدة تنهض بها دولنا الرازحةُ شعوبُها تحت وطأة الجوع والبرد.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

 

المساهمون