جرس الذكرى

31 مايو 2024
متظاهرون في لندن يرفعون لافتات ضدّ شركة الأسلحة BAE، آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، يُبرز تغيير الجرس بيت سعيد في حيفا دلالة رمزية على فقدان الهوية والذاكرة، إثر استيلاء عائلة يهودية على المنزل بعد فراره بسبب العصابات الصهيونية.
- تعكس الرواية كيف تسعى سياسات المحو لإزالة الذكريات والهويات، مُظهرةً أن محاولات استعادة البيوت والذكريات تصبح بلا معنى عندما يُمحى كل شيء مادي وروحي مرتبط بها.
- تُسلط الضوء على الفرق بين الفلسطينيين الذين يحملون مفاتيح وذكريات بيوتهم، والمهاجرين اليهود الذين بنوا وجودًا دون ذكريات مشتركة، مؤكدةً أن الذاكرة والهوية الفلسطينية تظل راسخة رغم محاولات المحو والتدمير.

في رواية "عائد إلى حيفا" لـ غسّان كنفاني، كانت الملاحظة الأُولى لسعيد حين وصل إلى بيته في حيفا، بعد هزيمة حزيران/ يونيو، أن قال لصفيّة، زوجته: "غيّرو الجرس"، مُشيراً إلى العائلة اليهودية التي استولت على بيته، بعد أن أرغمته العصابات الصهيونية على الفرار من المدينة. قد لا يكون الجرس (وللجرس هُنا دلالة رمزية مرتبطة بالتذكُّر)، أو أيّ شيء آخر، ذا قيمة ماديّة قطعاً، غير أنّه في الذاكرة الإنسانية يحتفظ بقيمة روحية لا تُقدَّر بثمن، لمن يُرغَم على ترك بيته.

أبرز ما تعمد إليه سياسات المحو، وهي سياسات تتكرّر، وتنتقل بوصفها خبرة وتجربة لدى المستعمرين، كما لدى المستبدّين، من مكان إلى آخر في قارّات الأرض، ومن زمان إلى زمان، هو تهديم البيوت ومحوها من الأمكنة، بحيث تكون أيّ محاولة لاستعادة البيت، أو الذاكرة، فيما لو تحقّقت، مجرّدة من المعاينة، من معرفة الأشياء الصغيرة التي كانت تصاحبنا ذات يوم: شجرة، أو صورة، كما في حالة فارس اللبدة في الرواية ذاتها، أو طاولة، أو كرسي. تغيير الأمكنة تغييراً شاملاً يجعل من أيّ محاولة للتذكُّر فاشلة، وبلا معنى، إذ إن ارتباطاتها بالمكان، أو بالبيت، باتت مفقودة تماماً، لا بيت تعود إليه، لا توجد مسبحة، أو سلسلة، أو دفتر عتيق. لقد أحرقوا كلّ شيء، أو مسحوه.

إنْ كانوا قد اخترعوا الحكاية فإنّهم عجزوا عن اختراع الذكريات

حين هاجَر آلاف اليهود إلى فلسطين، لم يكُن لديهم مفاتيح بيوت، كما هو حال الفلسطينيّين الذين أُرغموا على مغادرة بيوتهم، كما لم تكن لديهم ذكريات، وإذا كانوا قد اخترعوا الحكاية والوجود الكاذب، فقد عجزوا عن اختراع الذكريات. ولهذا فقد كان محو ذكريات الفلسطينيّين إحدى المهام التي لم يعترض عليها أحد من بينهم، سواء كان ينتمي إلى الحركة الصهيونية، أم لا. كانت لديهم الرغبة في مساواة ضحيّتهم بهم، ولهذا فإنّ مُدناً وقرى وبلدات كاملة مُسِحت ومُحيت وتحوّلت إلى مزارع من طراز آخر، أو إلى أراض زراعية، تحاول أن تمنع الفلسطيني لا من العودة وحسب، بل من التفكير في العودة.

لذلك لا فائدة من إعادة الإعمار في أيّ بلد إلّا من وجهة نظر رأسمالية، أي من حيث الأرباح العقارية، وفوائد القروض، وتشغيل رؤوس الأموال، أو لحاجة الناس لمأوى وبيت. بينما لن يستطيع أيّ إنسان أن يُعيد إعمار بيته الذي أُزيل بالكامل، قد يبني بيتاً جديداً آخر، حتى في المكان نفسه، ولكنّه ليس بيته الذي حمل ذكرياته من قبل. ومن يُزيل البيت، على غرار ما فعلت "إسرائيل" ببيوت غزّة، إذ إنّ الاعتداء طاول بيوتاً خارج نطاق الحرب والمواجهة، يُفكّر في قطع العلاقة بين الإنسان والمكان إلى الأبد، ولهذا لا معنى لمَا يُكتب في الأخبار عن القصف العشوائي الذي يعمد إليه الجيش الإسرائيلي، للبيوت والمباني هناك، فالعشوائية نفسها قصدٌ وسياسة، تعمل على استبعاد أصحاب الأرض، وتدمير ذكرياتهم، من المساحة بالكامل. وهناك في غزّة آلاف البيوت التي لم تعُد تصلح للترميم، والترميم نفسه يترك الذاكرة ناقصة.

المساحة الباقية التي لن يستطيعوا تدميرها في الواقع، وفي الذاكرة هي فلسطين.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون