المثال النموذج، أو أحد الأمثلة التي تتكرّر في الثقافة العربية، عن الكاتب المتمرّد، هو الفرنسي ألبير كامو، وهي فكرة مستمدّة من كتابه الذي تُرجم مبكّراً إلى العربية: "الإنسان المتمرّد"، وفيه مَسْحٌ تاريخي يتتبّع التمرّد ضدّ القوى الغاشمة في التاريخ البشري، كما أن فيها تفاصيل من حياته الشخصية. ثمّة العشرات من الأسماء التي تُذكر كمثال على الجسارة الفكرية في الغرب، وتوضع كنماذج لمحاسبة الكاتب العربي، أو إدانته بسبب العجز، أو الصمت، أو عدم المواجهة.
الجسارة في الكتابة واحدة من أبرز السمات التي يُمدح بها الكتّاب في جميع العصور، وهي صفة تعني أن الكاتب يتدخّل في قضايا العصر والمجتمع دون أن يُواري، أو يوارب، أو يتردّد، في السياسة أو الدين، أو الفلسفة، أو قضايا الوجود، أو المعارك الفكرية والأيديولوجية، وذلك من خلال مسارين، الأول هو أعماله الروائية التي يراعي فيها مسائل الجمال والفنّ، والثاني هو الأعمال الكتابية الأُخرى من مقالة ودراسة وبحث ومحاضرة إلى آخره. وتوضَع هذه الجسارة الفكرية عادة في ملف الكاتب، أو في الوثائق الشخصية التي تتحدّث عن مواقفه، سواء في حياته، أو بعد مماته، خصوصاً.
الجسارة في البلدان المستبدّة مصيرها معلّق بالسكِّين أو الزنزانة
غير أنّ الجسارة التي كان كامو (أو غونتر غراس، أو هارولد بنتر)، يواجه بها المجتمع الفرنسي، أو السلطة الفرنسية، أو غيرها، يجب أن توضع في المقارنة مع جسارة محتملة، يُدعى إليها الكاتب العربي في ميزان عادل يأخذ في اعتباره الفارق بين مجتمع ومجتمع، وبين سُلطة وسُلطة. وهي مسألة لا يُراعيها دُعاة الجرأة والجسارة، الذين يُمكن أن يعيّروا الكاتب العربي بأسماء أولئك الكتاب الغربيّين الذين "يقارعون" السُّلطة. معظم الأسماء التي قرأت أن أصحابها ناهضوا السُّلطة في بلادهم، من غير البلاد العربية، يعيشون في بلاد أُخرى تحميهم من تهديدات القتل في بلادهم.
مواجهة الأخطاء والانحرافات في المجتمع وفي ممارسات السُّلطة من قبل الكاتب واجب فنّي وأخلاقي، ولكن نوع السلطة، وطبيعتها، يُحدّد في الميزان المطالب التي يُمكن أن يكلّف بها الكاتب، كما يحدّد العناصر التي يُقيم بموجبها.
إذ بينما يُمكن أن تعترض السُّلطة الفرنسية على مواقف كامو، أو تنتقدها، أو تتجاهلها، وربّما يكون أقصى ما يُواجه الكاتب في الخلاف مع السُّلطة، أو المجتمع، أو الثقافة، هو الادّعاء عليه في المحاكم، إذ إنّ "السُّلطة" تُحيل مسائل الخلاف والصراع إلى سُلطة أُخرى محايدة، أو يفترض بها ذلك، هي السُّلطة القضائية، وفي هذه الحالة سوف يبقى الكاتب طليقاً، ويُوكّل محامياً للدفاع، إلى آخر ما هنالك من إجراءات تهدف إلى تبرئته، أو حمايته من أيّ خطر.
من النادر جدّاً أن تلجأ أيّ سلطة عربية إلى القاضي، وبديل القاضي، أو المحكمة التي ترفع شعار العدالة، تلجأ السلطة الدينية أو المجتمعية العربية إلى قوّة الحشد، وتعتمد على إثارة المشاعر في الشارع، لا على عدالة القانون في قاعات المحاكم، بينما تعتقل السُّلطة السياسية العربية الحاكمة الكاتب المعترض، أو تقتله. فالجسارة في بلدان الشرق، أو في البلدان التي تنتهك الحرِّيات، قد تحدث، ولكنها لا تتكرّر، ومصيرها معلّق بالسكِّين أو الزنزانة.
* روائي من سورية