رواية "ثلاثية" للكاتب النرويجي يون فوسه رواية في الحبّ، بلا استطراد خارج هذا الموضوع الذي يخوضه عاشقان في حكاية موزَّعة بين ثلاثة فصول. الرواية الصادرة عن "دار الكرمة" بترجمة عن النرويجية لشيرين عبد الوهاب وأمل رواش، نصٌّ رهيف في العاطفة، ويكاد يكون نصّاً يترجم العاطفة وحسب؛ في فردوسها وفي شقائها.
والحيز الذي يشغله الآخرون في حكاية العاشقَين ليس أكثر من دَور لما يَضير الحُبّ، لما يُشتّته، لما يعوقه، ولما يحتكّ به، وينحته، كما لو أنّ النص الشاعري لا يعدو كونه سيرةَ عاشقَين، صنعا مصيرهما، بمثابرة ويأسٍ منقطعَين، بصورة بدا لقاؤهما مستحيلاً وفراقهما مستحيلاً. وربّما تتأتّى شاعرية النص، لا من الأسلوب واللغة فقط، بل من الاستحالة ذاتها. عهدهما عهد المحبّين الذين لا يلتقون إلّا وداعاً.
تُثير الرواية لدى القارئ شعوراً بالشجن، شعوراً يتأتَّى لا من الاستحالة التي تعرضها الحكاية أساساً؛ بل من بُعد وجداني يدمغ النص، فالشخصيتان، أسلا وأليدا، يظهران منذ البداية مشرّدَين، يبحثان عن مأوى. أليدا تنتظر أن تضع مولودها، وأسلا يبحث عن سبيل كي يُطمئن محبوبته. لكن سُرعان ما نعرف أنّهما هاربان، ونشعر بطريقة ما أنّ أسلا، في سبيل الحُبّ وفي سبيل طمأنة أليدا والبقاء برفقتها، قد تحوّل إلى قاتل.
تعرض الرواية لموضوع الحُبّ وسط اشتراطات العيش نفسه
ليست الحكاية مجرَّدةً ما يثير ذلك التعاطف الوجداني مع الشخصيات التي تظهر مُذنِبة وهاربة، وإنّما تلك الطريقة في السرد التي تتناغم مع الإيقاع الداخلي للشخصيات، التي تتساءل أمام القسوة حيناً، وتحاكم ذاتها حيناً، وتظهر غافلةً عمّا يدور من حولها. كما يظهر الحُبّ الذي صنع مصير أسلا وأليدا حُبّاً بريئاً على الرغم من صناعته لقاتل، وطفوليّاً على الرغم من صناعته لمولود آثم في عُرف الآخرين. ذلك لأنّ أسلا وأليدا غير متزوّجَين، وإحدى مشاق أسلا الحصول على خاتمين، يشهر بهما زواجه من أليدا التي كانت في عمر السابعة عشرة.
إذاً، ما يجعل من رواية المسرحيّ والشاعر النرويجي حكاية مؤثّرة هو ذلك السرد العذب الذي يقسو على قائله؛ قسوة تتأتَّى من الغفلة التي يشردان فيها، وكأنّما أسلا وأليدا لا يعرفان طبيعة ما يجمعها، يقولان إنّه الحُبّ، الرغبة المتّقدة أبداً في البقاء برفقة المحبوب. لكنّه، بصورة أدق، الحُبّ الأعزل، فهُما بلا مأوى، وبلا اعتراف اجتماعي، وأخيراً بلا آمال.
أو إنّ آمالهما بسيطة، تقتصر على إيجاد مأوى، تقتصر على وضع المولود، ورعايته. وهذه الآمال البسيطة، تظهر آمالاً شاقّة، لأنّهما، كما يبدو، قد التقطا، مع الحُبّ، وهْماً آخر؛ وهو وهْم أنّ بمقدورهما أن يكونا سعيدَين لمجرَّد وجود العاطفة التي تجمعهما. فالنص يعرض، ببساطة وعمق، موضوع الحُبّ وسط اشتراطات العيش نفسه، وكأنّما يعرض موضوع الحُبّ كي يُصوّر بواسطته وبالاستعانة به، وبألمعية تلك الرابطة التي يقدّسها المحبّون، تعقيداً آخر، وهو تعقيد أشخاص خالين من العاطفة، أشخاص بسبب خلوِّهم من العاطفة، وكأنّما اكتسبوا عداءً لها.
الحُبّ في الرواية لا يتفتّت من الداخل، وإنّما يحاصره الخارج ويضيّق عليه، ويتحوّل بالتالي إلى ضرب من ضروب المواساة التي يحفل بها العالم الداخلي للبشر. ينطوي الحُبّ داخل العاشقة، ويصير عزاءها في وجه العزلة التي ضُربت عليها منذ صباها.
ونرى العداء الذي يُكال للحُبّ البريء في معظم النماذج التي تظهر على هامش حكاية الحُبّ، مثلَ الفتاة اللعوب التي تسرق السوار الذهبي الذي حصل عليه أسلا بعد أن باع كمانه، كي يُدخل السرور إلى قلب أليدا، ونراه في الرجل العجوز الذي استمرّ يلاحق أسلا إلى أن قاده إلى المشنقة، ونراه في القابلة التي رفضت استقبال الغريبَين منذ البدء. وربما ما صنع غفلة كلّ من أسلا وأليدا هي تلك الإحاطة العمياء بالقيود والكراهية، وهي إحاطة تُمثّل تياراً كبيراً من الناس، إنّها إحاطة أشبه أن تكون بالمجتمع المتآلف على استنقاعٍ ما، على شرائع ووصايا تكيد لتجربة الحبّ وعذوبته.
نصٌّ يقرأ الغرابة التي يجد المحبّون أنفسهم واقعين فيها
لكن بموازاة استحالة اللقاء، ثمّة استحالة أُخرى يؤكدّها النص، ويؤكّدها في سياق العاطفة غير المحدودة، العاطفة التي تُقارب بصفائها واتّقادها وغفلتها أن تكون خيالاً. وهي استحالة الفراق؛ إذ بينما تغادر أليدا إلى حياتها مع رجل آخر، بعد أن بقيت بمفردها مع الرضيع الذي سيصبح بدوره عازف كمان، تجد أمامها على رصيف المرفأ السوارَ الذهبي، وتعرف أنّه هدية أسلا لها، وتعرف أنّ ما منعه عن إيصال السوار هو السرقة التي تعرَض لها، ولاحقاً مقتله، الذي لا يبدو أنّ وعيها قد فكَّكه، إذ بقيت تتعامل، حتى وهي في منزل الرجل الآخر، مع أسلا على أنّه موجود إلى جوارها، على أنّه موجود فقط، كي يحتضنها، كي يساندها، وكي يُؤنسها في ساعات وحدتها. أمرٌ استمرّ طوال حياتها، حتى إنّها فارقت الحياة وهي تتحدّث إليه، وهي تتحدّث إلى رجل غائب، إلى رجل مقتول، إلى رجل قتله الحُبّ، أو قتلته إرادته بأن يُطمئن المرأة التي أحبّها.
باختصار، إنّه نصٌّ عبقري، يقرأ الغرابة التي يجد المحبّون أنفسهم واقعين في أوزارها، غرابة التصاق مصائرهم معاً، وغرابة كونهم يقاسون منفىً ما، بسبب جهلهم لأنفسهم، وبسبب وقوعهم تحت سطوة مشاعر الحُبّ الغامضة، وبسبب افتراقهم الذي يَظهر محتوماً، ولا مناص من وقوعه. وهو نصٌ مشحون ببراءة المحبّين، وشراسة الحُبّ، إلى جانب قوّة الأسلوب، ومتانة المعالجة.
* روائي من سورية
بطاقة
Jon Fosse كاتب نرويجي من مواليد 1959. صدرت روايتُه الأُولى بعنوان "أحمر وأسود" عام 1983، وتلتها عدّة أعمال في الرواية والمسرح وكتب الأطفال؛ آخرها سباعيته: "الاسم الآخر" في كتابَين (2019)، و"أنا هو الآخر" في ثلاثة كتب (2020)، و"اسم جديد" في كتابَين (2021). تُرجم إلى أكثر من أربعين لغة. وفي رصيده عدد من الجوائز الأدبية منها: "جائزة أيسن الدولية" عام 2010، و"الجائزة الأوروبية للآداب" عام 2014، كما حاز "وسام القديس أولاف الملكي" عام 2011، وهو أعلى امتياز في النرويج.
"ثلاثية" هي ثاني أعماله المترجَمة إلى العربية، بعد "صباح ومساء" التي صدرت عن "منشورات الكرمة" في 2020 بتوقيع شيرين عبد الوهاب وأمل رواش أيضاً.