توم وايتس... الحالم الذي نشد خلاص البشرية

01 يونيو 2023
توم وايتس خلال حفل مع "رباعي كرونوس" في كاليفورنيا، 2007 (Getty)
+ الخط -

احتفل الموسيقي الأميركي توم وايتس، مؤخّراً، بالذكرى الخمسين لألبومه الأوّل Closing Time ("وقت الإغلاق")، الذي صدر في 6 آذار/ مارس 1973. وهو العمل الذي تنبّأ بالمسار الذي سلكه في مسيرته الموسيقية لاحقاً، خلال ألبوماته السبعة عشر؛ ودلّل إلى أيّ مدى كان متعمّقاً في استكشاف الحالة الإنسانية في أغانيه المليئة بالإشارات والرموز والتأمّلات الدينية.

"لا العين بالعين، ولا السنّ بالسنّ، رأيتُ يهوذا الإسخريوطيّ يحمل جون ويلكس بوث". بهذه الكلمات رسم المغنّي (مواليد 1949) تصوّره الخاص عن الجنّة؛ حيث يُحشَر فيها المتّقون وأصحاب السُّمعة السيئة والمومسات معاً، كما سبق له أن قال في مقطوعته "أسفل هناك بالقطار"، لأنهم كلّهم "قد غُسلوا بدم الحمَل"؛ وفيها، أيضاً، "متّسعٌ للمهجورين، بشرط أن تحضر في الوقت المُحدَّد". 

لكنّ قصة المغنّي الوجودية بدأت عام 1969، في لوس أنجلوس، حين جاب شوارع المدينة بسيارته بحثاً عن المعنى، والذي يُمكن سماعُه في ألبوماته الأُولى المليئة بالقصص التي تستبطن بُعداً بودليرياً، ومناظر طبيعية حضَرية كما في لوحات إدوارد هوبر: اكتمال القمر، والأصوات الليلية، والضواحي ذات أضواء الشوارع الخافتة، والبار العابق بالدخان والفارغ تقريباً، حيث يجلس عددٌ قليل من المُشرَّدين والوحيدِين، بينما يعزف على البيانو ألحاناً تحكي عن أشياء فظيعة.

"لكنّ الدم ينزُّ من صندوق الموسيقى على أرضية مشمّع قديمة
فيا له من مطرٍ حارّ على الشارع الثاني والأربعين
الآن؛ ليس هناك فرصة للمظلّات
وصاحب الجرائد مجنون، ذو سراويل مُبقّعة...".

انتقل عام 1980 إلى نيويورك، وهناك التقى بزوجته كاثرين برينان، التي ستصبح ملهمَته ومساعدته الإبداعية. عندها سيترك الأسلوب الرومانسي البوهيمي السابق، ليبدأ مرحلة جديدة في عمله وأبحاثه كما في أغنيته "ربّاه لقد تغيّرتُ"، مُعترفاً صراحة أن "الربّ يعلم أني تغيّرت/ الربّ يعلمُ أني قد فُديت/ يُمكنكِ إيقاظي منتصف الليل/ سأخبركِ بما رأيته".

حفلتْ أغنياته بأسئلة عن الخير والشرّ والوجود الإنساني

يستيقظ وايتس بالفعل! بعد حلم يقظة طويل، قام حقّاً من بين الأحياء الفقيرة في نيويورك، كمثل الأنبياء الذين يستفزّون المُستمعين بأسئلة حول جدوى القناعة بما هم عليه؛ وأُخرى أصعب حول طبيعة الإله والحياة، والخير والشر، والخلاص. فبالنسبة له، الإله محتجب، لا لعلّة جوهرية، بل لأن أعمال الإنسان المُخزية هي ما تحجبه.

وفي عمله "قطرة سمّ صغيرة"، يرى أنّ تُهمة الشرّ موجّهة ضدّنا - نحن البشر - في المقام الأوّل، فنحن مَن ارتكبناها، لا الإله. وفي أغلب أغانيه ملاحظة ضمنية؛ أننا خُلقنا على صورة الإله ومثالِه، لكننا فَشِلْنا في تشكيل حياتنا وفقاً لتلك الطبيعة. فالعالَم يعجُّ بالخداع والخيانة والجشع، ويصعب فيه العثور على الخير في الناس أو المؤسّسات البشرية. 

لكنّ الفِدَاء يأتي مع الدّم. ففي واحدة من أميز أغانيه؛ "دم يسوع لم يُفشلني أبداً بعد"، وهو دويتو سجّله مع رجل مُشرَّد، يغنّي ببساطة متكرّرة برفقة "أوركسترا جافين بريرز"، مؤكّداً ذلك بشكل لا لبْسَ فيه.

في حياته المهنية الطويلة، ابتكر وايتس مجموعة متنوّعة وأصليّة من المقطوعات، في أساليب موسيقية مختلفة: من القصص الشعبية والروك، إلى مؤلفات البلوز والجاز، ومن أغاني R&B (الإيقاع والبلوز) والترانيم الإنجيلية، وصولاً إلى الموسيقى التجريبية والبديلة والطليعية؛ بالإضافة إلى شارات الأفلام التي رُشّحت مراراً لجائزة "الأوسكار". لكنْ؛ يبقى أكثر ما يُميّزه عن الآخرين، أنّ ألحانه، عند المستمعين إليه، هي أشبه بالقربان المقدّس عند المؤمنين. فمَن يستمِع له مرّة من الصعب ألّا يصبح متابعاً له. هذا وقد شاعت، مؤخّراً، أخبارٌ حول عودته إلى التأليف من جديد.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون