في صيف عام 1905، باشر توفيق كنعان الذي تخرّج من "الكلية السورية الإنجيلية" في بيروت (الجامعة الأميركية حالياً) عمله في المستشفى الألماني بالقدس، حيث جذبته المعتقدات والطقوس الشعبية المتعلّقة بالأوبئة، فبدأ جمْع "الحجب" (تعويذات تُعلَّق وقايةً من المرض أو من أجل علاجه) وتدوين الخلفيات المرتبطة بها.
اهتمامٌ قاد الطبيب والباحث الفلسطيني (1882 - 1964)، الذي تمرّ ستّون سنة على رحيله، إلى دراسة التراث عبر تمثّله في العادات والتقاليد الزراعية، والمعارف التي طوّرها الفلّاحون في فلسطين حول النباتات والأرض والتقويم، وكذلك الاحتفالات والمواسم، والتصوّرات المتوارثة حول الطفل والمرأة والحياة والموت، والعمارة التقليدية في المدينة والريف الفلسطينييّن.
يبيّن تقديم معرض "يا كافي، يا شافي.. مجموعة توفيق كنعان للحجب الفلسطينية"، الذي نظّمته "جامعة بيزيت" عام 1998، أنّ كنعان أخذ يشتري الحجب من مرضاه بدلاً من أتعابه كطبيب، في إشارة إلى محاولته التصدّي للخرافات والممارسات الخاطئة المنتشرة آنذاك، بالتزامن مع انكبابه على البحث الإثنوغرافي الذي يُعدّ من أبرز مؤسّسيه في مرحلة كان هذا الاهتمام يكاد يكون محصوراً لدى عدد من المستشرقين والباحثين الغربيّين الذين أقاموا في فلسطين والمنطقة العربية.
انكبّ على البحث الإثنوغرافي الذي كان حكراً على المستشرقين
ضمّت مجموعة الحجب أكثر من ألف وأربعمئة قطعة، تعود أقدمها إلى عام 1912 وأحدثها إلى عام 1947، وكان يثبّتها على ألواح كرتونية ويكتب إلى جوار كلّ منها ملاحظاته الأوّلية التي تتضمّن اسمها بالعربية وما يقابله بالأحرف اللاتينية، وسنة اقتنائها، ومصدرها، وكيفية حصوله عليها، وسعرها إذا كانت مشتراة.
تلفت القيّمة الفنية جيزيلا هيلميكيه إلى أنّ أهمّية هذه المجموعة تأتي من ندرتها وتنوّعها، وأنّ الكثير منها بدأ في الاختفاء في أيامه، وكان متوقّعاً ضياعها وفقدانها من الذاكرة الجماعية الفلسطينية، موضّحة أنّ الجزء الأكبر منها حلي تقليدية كُتب عليها نقوش غريبة، إلى جانب الأحجار التي نُقشت عليها الحجب أيضاً، وأجزاء من جذوع الأشجار وبقايا عظمية حيوانية، وقطع خشبية وجلود وصحون خزفية، كانت تُستخدم في طقوس معيّنة لدى المسلمين والمسيحيّين، وفق ما يذكُر كنعان من أجل التداوي وطلب الشفاء، كما ضمّت تعاويذ ورقية خُطّت عليها كتابات عربية بزخارف فنّية، كانت تُعلّق على جدران المنازل في تلك الفترة، معظمها جرى جمعها من مدينة القدس وقراها المحيطة، وكذلك من مدن فلسطينية مثل نابلس والخليل وبيت لحم والناصرة وطبريا ويافا والرملة واللد وغزّة، سواء كانت مشغولة في هذه الحواضر أو جلبها الحجّاج القادمون من جميع أنحاء العالم إلى القدس آنذاك، أو أتى بها الحجّاج الفلسطينيون من مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة.
راكم كنعان ملاحظاته ونشر عشرات المقالات في هذا الإطار، قبل أن يُصدر أُولى مؤلّفاته باللغة الألمانية بعنوان "المعتقدات الغيبية والطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدَّس"، مستنداً إلى مجموعة من المصادر التاريخية في تفسير الطلاسم والتعويذات المستخدمة في التداوي بين أوساط الفلّاحين والطبقات الفقيرة غالباً، وإلى روايات شفهية دوّنها على لسان بعض المشايخ والمرضى أنفسهم، بالإضافة إلى تعليقاته الشخصية على هذه الممارسات.
إلى جوار انشغالاته في البحث والتأليف ضمن حقلَي الطبّ والتراث، انخرط كنعان، المولود في عائلة فلسطينية مسيحية، في النضال ضدّ الاستعمار البريطاني والصهيونية، كما تعكسه مقالاته التي كتبها بالإنكليزية والألمانية والعربية، وعبّر أيضاً عن تأييده للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، ما دفع السلطات البريطانية إلى اعتقاله سنة 1939 وتقديمه إلى المحاكَمة ثمّ اعتقاله في سجن عكّا لأشهر عدّة، وطاول الاعتقال زوجته وشقيقته أيضاً.
بعد خروجه من السجن، واصَل كتابة مقالاته السياسية، والتي نشرها في كتابَيه "قضية عرب فلسطين" و"صراع في أرض السلام" اللذين أصدرهما بالإنكليزية عام 1936، وتضمّنا دفاعه عن مطالب الحركة الوطنية الفلسطينية أمام الرأي العام البريطاني ودعوتها إلى إضراب عام في السنة نفسها، وتأكيده على حقّ المقاومة ضدّ الهجرات اليهودية، والموت في سبيل ذلك.
فقَدَ كنعان بيته ومكتبته وثلاث مخطوطات في حيّ المصرارة بالقدس الغربية إثر هجوم العصابات الصهيونية عام 1948؛ خسارة ثقيلة أثّرت عليه كثيراً إلى درجة لم يتمكّن من تجاوُز الأمر حتى رحيله، لكنّ ذلك لم يحُل دون مواصلة العمل في فترة مهمّة، تسلَّم خلالها الفلسطينيون إدارة المستشفيات في مدنٍ عدّة بعد خروج المستعمر البريطاني، حيث شغل حينها منصب "الجمعية الطبية العربية لفلسطين" التي ساهم في تأسيسها وترأّس تحرير المجلّة التي صدرت عنها لسبع سنوات.
انخرط في النضال ضدّ الاستعمار البريطاني والصهيونية
بعد قرابة ستّين عاماً من البحث والتنقيب في التراث الفلسطيني، ترك دراسات ومقالات متنوّعة اعتمد فيها على مناهج الأنثربولوجيا في وقت مبكر، كما في كتابه "الأولياء والمقامات الإسلامية في فلسطين" (1927) الذي أتى ثمرة دراسة ومسوحات ميدانية، حدّد خلالها مواقع معظم المقامات في المدن والأرياف الفلسطينية، مع وصف دقيق لمعمارها وطبيعة بنائها بحسب الحقبات التاريخية التي شُيّدت فيها، وجميع الطقوس والعادات ذات الصلة بهذه الأضرحة، مع تثبيت سيَر أصحابها وحضورهم في الذاكرة الشعبية.
يستمّد توفيق كنعان رؤيته في بحثه الأنثروبولوجي من رؤية تحدّث حولها في عدد من كتبه، وتتّصل بالتراكم الحضاري لأرض فلسطين بدءاً من الكنعانية والآرامية والهلنستية، ثم الحضارة العربية الإسلامية التي أكّد على حضورها الأوسع والأكثر تأثيراً، ولم يغفل دراسة الغزوات الخارجية كالصليبّيين والمغول، لفهم التعدّد الثقافي للمجتمع الفلسطيني، ما جعله يقوم بجهد ريادي في قراءة الأزياء التقليدية والمواسم والأعياد والطلاسم والخرافة وغيرها من الموضوعات التي كانت حكراً على المستشرقين والباحثين الغربيّين، بل إنه سعى إلى تصحيح بعض تفسيراتهم الخاطئة حول المجتمع الفلسطيني.