تشظّيات غزّة

28 ديسمبر 2023
من مخيّم المغازي في غزة، 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

لعلّ العالم يعتقد أنّ المدينة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كلم مربعا، والتي تُعادل في الوضع الطبيعي مساحة حيٍّ سكني صغير في إحدى الدول المنبسطة على شواطئ العالَم، محض دولة كبرى. لا يُمكن لهذا الكمّ الهائل من الأخبار، ولا لهذا الكمِّ الهائل من الصبر والمعاناة والبطولة والصرخات والأنّات والحرائق أن تأتي من هُنا حصراً، من هذا الضيق ومن هذه الحدود التي لا تتّسع لشهيق نملة ولا لزفير فراشة ملوّنة. ثمّة شيءٌ غريب يُعاكس فهم العالَم، أو رغبة العالَم في فهم كيف انفجر ضيق الجغرافيا إلى مئات وآلاف التأمّلات الصغيرة والانتباهات الدقيقة، التي يعجز الذهن عن تناولها في ظرفها الطبيعي من دون الذهاب إلى الفرد باعتباره مُحرّكها وراعيها وراسم تفاصيلها الدقيقة.

لكنّ الفرد هذه الأيام، وهو يُواجه قلقَه الوجودي المتجهّم الذي تحوّل إلى ماكينة لصناعة الجثّة في بُعدها الفردي، والمجزرة في شكلها الجماعي، يُواجه مصيراً زمنياً متمدِّداً من دون انتهاء على زمانه الشخصي حدّ التهشّم والاختناق، وهو زمان عصيٌّ على التوقّف، ومتمنّع في منح الفرد فرصة لالتقاط الأنفاس.

لكن هل يُمكن لمفردة "جثّة" أن تُصبح مفردة عادية في فضاء التعاطي اليومي، ترمش العين بعدها بشكل طبيعي، ويرتدُّ النفَس إلى القفص الصدري، كجزء من رياضة التنفّس اليومية المتواصلة، بعدها أو قبلها أو أثناء لفظها!

الانتظار هنا يمنح الأوقات بُعداً آخر لم يُختبر من قبل

الجثّة، هذه المُفردة المستغلقة على حمولتها، والمفتوحة على دلالاتها، أصبحت واحدةً من مُستلزمات الوجبة اليومية من الأخبار، إلى جانب مُفردة المجزرة، التي لا تقلُّ شأناً، سوى أنها حاصل ضرب لا نهائي من الجُثث المترامية هُنا وهُناك.

لكن، ثمّة شيء مجهول يضغط من أجل أن نهضم المُفردتين، بالاعتياد والتجاوز، وكأنهما وجبة في قائمة طعام في مطعم، تتجاوزها بالاعتياد، وتقفز عنها برشاقة التشابه أمامك، وتطرف عنها بالملل كلّما لمع أمامك ما هو أشدّ بريقاً وأسهل فهماً وأوضح طريقاً للهرب. لكن هل يُمكن في أيّ زاوية نظر مُمكنة أن يحدث هذا، وإن حدث، أليس هذا محض ثمن فادح آخر للحرب وأثقالها المروّعة على كتف الرُّوح!

ثمّة ما يضغط أيضاً من أجل أن تُمحى القصص الفردية والأحلام الشخصية، والأسماء "يا اسمي: سوف تكبَرُ حين أَكبَرُ سوف تحمِلُني وأَحملُكَ، الغريبُ أَخُ الغريب"، بغبار الإحصائيات المتدافعة والأرقام المتراقصة على الشاشات. ثمّة ما يدفع أو يضغط أو يريد اجتزاء القصّة بالاقتلاع من الجذور، لصالح الصورة العامة، أو لصالح الكسل في الانتباه إلى التفاصيل والأسماء الشخصية والأحلام المهدورة والطموحات المقتولة، ومخطّطات صبيحة اليوم التالي من كلّ شيء، ثمّة ثمنٌ فادح للحرب، أليست الحرب سوى محض أثمان فادحة لكلّ شيء، حتى بالاسم الشخصي!

لكنّ الحرب، وهي تكشف واحداً من أعظم وجوهها، الذي كادت البشرية أن تطويه بالنسيان في كتب التاريخ والاستعادات المناسباتية البعيدة، عاد من جديد، واضحاً جارحاً وفادحاً، يُمارس هوايته بإعادة الأشياء إلى أصفارها، ورسمها من جديد في خرائط الموت والحياة، إذ كيف يُمكن فهمُ الموت في نظر مَن ينتظره من الأحياء، وكذلك، كيف يُمكن فهم الحياة في نظر من يحدّق الموت في وجوههم في كلّ الأوقات.

وإذا كانت الحرب قد كشفت وجهاً جديداً وشرساً في غزّة هذه الأيام، إلّا أنها أعادت الاعتبار إلى زوايا منسيّة في ذهن مَن رأوا هذا الوجه، زاوية تنطلق من اللحظة في شكلها الثابت، في مقابل الحُلم الذي يدفع اللحظة كي تتحرّك من أجل أن يأخذ مكانه هُنا، صراعٌ في ثبات اللحظة أمام دينامية الحُلم في محض تحديق جماعي/ فردي مُروِّع في الموت.

لكن، لا يُمكن تفسير هذا الاقتراب الجماعي المُفجِع من الموت في غزّة، إلّا باعتبار ما يحدث ذروة من ذروات الوجود، ذروة باعتباره مُوشكا لا محالة على الانقضاء، أو ذروة باعتبار شرّه ذاهبا إلى الأفول، ولطالما لا الوجود يُوشك على الانقضاء، ولا الشرّ في طريقه إلى الأفول، فثمّة صورة مكثّفة للجحيم يتولّى الوجود استظهارها لنا في واحدة من ذرواته المروّعة هذه الأيّام. تنشطر الذروة على طريقة الذرّة في الأنشطار إلى قسمين، ذروة تنتظر إلى ما لا نهاية مصيراً غامضاً داكناً لا وضوح فيه، وهي بالمناسبة لا تقلّ فداحة ورُعباً عن ذروتها الأُخرى، المتمثّلة بالتشظّي والأشلاء والتلاشي في لحظة تلتقي فيها كلّ ذروات الإنسان مُجتمعة في لحظة واحدة.

ذروتان تتقاسم فيها أطرافهما طابوراً طويلاً من الانتظار إلى ما لا نهاية، أو التشظّي والأفول. ثمّة سحر أسود في تأمّل الانتظار هذا، لطالما أنّ الانتظار هُنا يمنح الأشياء والأبعاد والأوقات بُعداً آخر، لم يختبره أحدٌ من قبل، إذ ماذا يعني طلوع الصباح، إذا لم يحمل الصباح معه صفحةً تطوي خلفها صفحةً انقضت، إنها محض صفحة طويلة، عصيّة على الطيّ، وغير قابلة للانقضاء. وماذا يعني الخلود إلى النوم، إذا لم يحمل النوم معه فكرة أُخرى، نقيضة وجديدة وطازجة تحطّم الفكرة السابقة، وتخضعها بقوّة الذهن لمنطق الفكرة الجديدة، لكن الجحيم هُنا يفرض فكرته الوحيدة: الانتظار.


* كاتب من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون