تحية إلى الرواية السورية

28 اغسطس 2024
غرافيتي على أنقاض بيت في إدلب، 2022 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- كتاب "التغريبة السورية" أثار جدلاً حول تسمية الثورة السورية بالحرب الأهلية، مما أدى إلى إلغاء ندوة في إسطنبول.
- الرواية السورية بعد 2011 أصبحت مرآة لتجارب ومعاناة السوريين، حيث يعرض الكتاب آراء متضادة وتجارب محلية.
- رغم التحديات، خلقت الرواية السورية ذاكرة حية وديمقراطية، مقدمة قراءة شاملة لحياة السوريين وعلاقاتهم وأمانيهم بالخلاص.

في الأيام الفائتة استجدَّ سجالٌ منفلت من عقاله بين المهتمين بالشأن السوري، خصوصاً من السوريين، حيال تسمية الثورة السورية بالحرب الأهلية بسبب العنوان الفرعي لكتاب نشره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" لمؤلِّف سوري ("التغريبة السورية: الحرب الأهلية وتداعياتها المجالية والسكانية 2011-2020")، كان سيُطلق في ندوة لنقاش الكتاب يُقيمها "مركز حرمون" بإسطنبول وجرى لاحقاً إلغاؤها. بدا وكأن الأمر امتدادٌ لحديث شغلَ السوريين في السنوات الأخيرة، سواء في يومياتهم أو في كتاباتهم. حديثٌ مفتوح، مثل جرح، مثل مقتل ابنٍ وضياع جثّته.

دفعني هذا السجال المرير - الذي سرعان ما تحوّل إلى حفلة شتائم - إلى التفكير في الرواية السوريَّة، وبمجموع النصوص التي كُتبت بعد عام 2011، ووجدت أنَّ لديَّ المسوغات الكافية التي تدفعني إلى تحيَّة الرواية السورية، متجاوزاً فكرة أنّي كاتب سوري.

بلا شك، الرواية بالمبدأ فنٌّ ديمقراطي، يعرض عبر الشخصيات آراءً قد تكون متضادَّة، ولقاؤها قد يستحيل خارج لغة القتل التي فرضها الواقع. أيضاً بلا شك، الروائيون/ الروائيات بهوياتهم المحليّة. أقصد، بتجاربهم في المكان الذي ينتمون إليه، بمعرفتهم للحياة، واكتسابهم القيم العامة في المكان الذي صنعهم؛ يمكن أن يكونوا ممثلين عمَّا عاشوه، وشهوداً على الحياة بالصورة التي رأوها فيها. هذان الاعتباران البسيطان في الأدب والكتابة، يقودان إلى جواز أن يكون الروائيون/ الروائيات رواةَ أهلهم بأوسع معاني الكلمة. والحرب هنا تكون تفصيلاً في مشهدٍ أشمل يهمُّ الروائي، إذ ما يشغله وهو يرى الحرب، وينظرُ إلى الحرب، ليسَ أزيز الرصاص وخرائط النفوذ، بل حياةُ البشر في المكان. وما يعنيه من الحرب هو الطريقة التي صنعت مصائر الناس فيها.

يبقى هذا التقديم كلاماً عاماً ينفع للقول في أيِّ بلد. لكن ما حدث في سورية أنَّ غياب الفعل السياسي بالمطلق، وبالصورة التي تحدث في أمكنة أخرى في العالم، دفع بالسياسة إلى الظهور أحياناً بصورة تخرّب باقي الفنون أو تتعدّى عليها. لقد ارتفع صوت السياسة في الرواية السورية، بسبب انعدام السياسة في الواقع. ولا يمكن للإنسان أن يعزل نفسه عن التصوّر العام للحياة في بلده، مهما كان مأخوذاً بالفن. رأينا روائيين تأخروا في إصدار أعمالهم، وآخرين توقفوا عن الكتابة، إلا أنَّي -بالحدود التي أتابع بها الأدب السوري- لم أقرأ عملاً سورياً يخلو تمام الخلوّ من النار التي ضربت بلده. والنقاش الذي خضعت له الرواية السورية، كان أقلَّ حدة من نقاش الدراسة الأكاديميَّة، ببساطة لأنَّ الرواية بناءٌ في المخيلة يستند إلى الواقع على نحوٍ ما، إلا أنَّ آفاقه في المخيلة.

وثيقة يطعن بها الناقد ويزدريها السياسي ويمنعها الرقيب

مع ذلك، فالرواية السورية تعرف نقاشاً صعباً آخر، وهو مدى فنّيتها بعد اعتداء السياسة على بنائها، وأخذها حيّز العالم الداخلي النفسي للبشر. وهو أيضاً نقاشٌ مفتوح كثيراً ما يكتب فيه. وأخالُ أنَّ المسألة التي تشغل الروائي/ة السوري/ة هو الشكل الفني الذي سيخرج فيهِ الواقع المتهالك والدامي. وأيُّهما يجب أن يشغله أكثر، موضوع العمل ومقولته، أو جودته الفنيّة وإخلاصه لحدود دور الفن وقدرته أساساً على التدخل. صحيح، يوجد من يقول بإمكانية جمع هذين الشرطين، إلا أنَّ هذا الجمع ما زال -للأسف- متعذراً، لأنَّ اللحظة لا تزال على الرغم من سكونها الظاهري، مشتعلة وحارقة. وما من سوري يكتب إلا ويعرف أنَّه يعوم في مستنقع ألغام وكراهية وهويات ضيقة وقاتلة.

مع ذلك، أخالُ أنَّ هذا الدور الذي وجدتِ الرواية السورية نفسها مضطرة ومدفوعة إلى أن تأخذه عبر إلحاق الأدب بالسياسة؛ قد صنع للسوريين جميعاً ذاكرة حيَّة، ديمقراطية، تتعدَّد أصوات الروائيين/ الروائيات، وتتعدَّد مشاريعهم، وزوايا رؤيتهم، ويتنوَّع سياقهم الاجتماعي والاقتصادي. بالطبع، لا أرشّح أو أقترح أن تنوب الرواية عن البحث والدراسات، بل فكَّرت بتحية الرواية السورية لأنَّها انشغلت كلَّ الانشغال بقراءة سورية كلها؛ حياة أهلها، علاقاتهم التي فتكت بها الحرب، صلاتهم التي انقطعت مع أمكنتهم الأولى. أُمنياتهم بالخلاص، وتنوّع اعتقادهم حيال الخلاص نفسه.

إذ يمكنك -أيُّها العالم- لتعرف ما حدث في سورية، أن تقرأ وثيقتنا الاجتماعية السياسيَّة الأدبيَّة التي يطعن بها الناقد، ويزدريها السياسي، ويمنعها الرقيب، وينتظرها القُرَّاء. وفي صفحاتها لم تعد الضحية تُطلق النداء، لأنَّها عرفتْ صمم العالم.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية