تعلّمتُ منهم، وهذا نفعني كمريض سكّر، فجزاهُم الله كل خير:
المشرّدون البرشلونيّون يمشون كثيراً: يعيشون في تلك الزاوية من المدينة، ويستحمّون في أُخرى، ويأكلون في مطعم اجتماعي بمكان ثالث، وقد يتعاطون في كلّ الأمكنة.
وأغلبُ من عرفت منهم، يمشي لا أقلّ من عشرين كيلومتراً في النهار، ولا يناديني إلّا بـ "الأخ"، وبخاصّة الإناث صغيرات السن.
وكلُّهم، تقريباً، ينامون في وقت مبكر. ويأنفون من طرح أسئلة موضوعية عليهم.
بعضهم عاش في الشارع منذ عقود، مثل جوردي فريول كَاتَلَا (أشهر صعاليك الحيّ القوطي، عبر الخمسين سنة الأخيرة)، وبعضُهم منذ عقد زمني، مثل خابيير الأندلسي المقيم حول "ساغرادا فاميليا"، وهو أصلاً من قرية زيتون، غير بعيدة عن قرية لوركا، وكنتُ أضيف لاسمه لازمة "سولانا" تحبُّباً وتبرجزاً، وهو لا ينتبه، وكلّما ناديتُ عليه بالاسمَين، يفهم المقصود ويلتفت ويبتسم.
ومثل خوسيفينا باتيستا، مشرَّدة "الرافال" الجديدة، حيث كانت مدرّسة ثانوية سابقة في ضواحي ريو دي جانيرو التي تصفها بـ "قارة من البشر الجوعى"، وكانت بنت ناس، ثم صارت بنت ناس أكثر، بصحبتنا، تحت كرَم السماء الإيبيرية ولُطف ساكنيها.
ونوريا مِن "حيّ غراسيا" (اليساري السابق)، وكانت عاشت في قرى البرانس العالية، لمدّة 43 عاماً، ثم قرفت من الصمت "المرعب، هناك"، و"الرتابة المحبطة، هناك"، فطاولها الوسواسُ الخنّاسُ، وفكّرَت في رَغَد ضوضاء المدن.
وخوان، من "باي دي برون"، الذي ينتظر إغلاق محل الكابرابو، ليُوزِّع ما يفيض ويُرمى من خيراته الجزيلة، على عابري السبيل، بغضّ النظر عن العرق والجنس والدين، إلخ.
من أربع قارّات جمعتهم بؤرة المدينة وملاذ أبناء السبيل
ومحمد المغربي من "باراليل"، الشاعر السابق في الصحراء، "لأنّ الظروف لا تسمح، وقطران الصحارى ولا عسل النصارى، ولكنّ ما فات مات، أو أوشَك".
وعبد الجميل الباكستاني من "إل بورن"، طالب كلّية الطب المزعوم في كوالالمبور، الذي انتكس فجأةً، كما يدّعي، جرّاء اكتئاب حادّ، إثرَ طلاق الوالدَين.
ورومان الأوكراني من "سارِيا"، بَخلوا عليه بالورق، فهام يأكل ستّ وجبات، من الخيّرين، من متسوّقي سوق "لا بوكيريا" ومحلّات "دِيَا وليدل".
والصبيّة الروسية نتاشا من "ليسِبْس"، تلك الجميلة بلا مأوى، ويُخفي مظهرُها الراقي واقعَها القاسي، وكانت قدمت من "دوبوفكا"، لتعمل في تنظيف البيوت، وتُواصل تعليمها الجامعي، والظروف أبت.
تنام بشكل متقطّع في شوارع حيَّي الكرمل والخليل، أو تحت أي سقف طارىء مقابل بعض المحبّة الطارئة، وما شابَه.
وتُحبّ الطعام المتوسّطي بنكهاته المتعدّدة، وتشيخوف، بنكهاته المتعدّدة، هو أيضاً، على نحوَين خاصّين.
وغيرهم وغيرهنّ من مئاتٍ متجمّعين في بؤرة المدينة وملاذ جميع أبناء السبيل، من أربع قارّات: "كنيسة سانتا آنا" العتيقة، في الشارع الشهير روائياً، والذي يحمل اسمها، بكرش راعيها الغاليسي الفلاحي السمت والكلام، كأنه ملاكم غابر.
يأكلون الحلويات في الإفطار، وبعض قطع البيتزا، يأتي بها الإيراني عاشق الحمام، أختر، في أكياس كبيرة سوداء، فتُسخّنها المتطوّعات الشابّات، وما يفيض عن الحاجة، يُفتفته الرجل للطيور في الساحة.
إن لم يكن هذا بشعْرٍ فما هو الشعر في التعريف الوجودي؟
وبعد الغداء (غيَّر السكّري الطعوم)، يُحلّون بالمشاريب، من عصائر طبيعية ومنبّهات، وفاكهة، ثم يغفون على الكراسي، كيفما وحيثما تيّسر، كي تهضم المعدة براحتها، إمّا كلّ سبعة على مقعد كبير، أو كلّ اثنين على مقعد رباعي، بهذا الشكل: الرأس عند الرأس، في المنتصف، والأربعة أقدام، تحتلّ أطراف الأريكة.
فلا مكان لسواهما، ممّا يثير غير قليل من استياء الحاضرين، وأحياناً ينتج عنه معارك ودم.
ثمّ يصحو البعض منهم، لسببٍ ما، ويُعارك العالَم غير المرئي، بحركات غير عنيفة جدّاً، ولكنّها مرئيةٌ جدّاً، بينما ألسنتُهم، في غضون ذلك، لا تتوقّف عن الصراخ، بلغات برج بابل، وكلبهم يرمق المشهد "غير المفاجئ"، باسطاً ذراعَيه بالوصيد، وممتلئاً بالرصانة والحكمة، غير البشريّتَين.
لا بد.
حتى أنّ خميس المرّاكشي سألني بوصفي شاعراً على علْمٍ ببضع الشظايا:
أَمِثل الحمار، يرون الشيطان، فينهقون؟
وأنأ أجبته: لا يا سليم، إنهم بشر، مثلنا: معطوبون قليلاً، ويعانون من مشاكل في الصحّة العقلية، أقل.
فلا داعي لقسوة ذلك التراث، والاستيحاء منه، على جغرافيا مختلفة وزمان غير.
ثم يخرج هؤلاء وينامون في أمكنة متفرّقة غامضة، كلّما حلّ ليلٌ شتوي أو صيفيٌّ أو ما بينهما.
وغيرهم وغيرهنّ من أولئك الذين لا تحضرني الآن أسماؤهم العزيزة.
إن عدَّدهم ليربو على الألفَي مشرَّد (على الأقل، "في عهدي")، وليس 1600، كما تزعم بلدية الرفيقة آدا كولاو.
وأجمل ما في قبيلتنا هذه أنهم بالكاد يحوزون ممتلكات: آ والله: فقط شنطة على الكتف، تصغر أو تكبر، وكلُّ ما هو غير مُلح، مُستثنى ولا يُحمل، حتى لو توفّر مجّاناً من أُعطيات العابرين الطيّبين.
لكنّهم، مع ذلك، لا دراية لهم أبداً، بطرفِ علْمٍ مِن ماركس "غير الماركسي"، وليسوا على أية بيّنة من نوايا ميخائيل باكونين "الأناركي"، المصفوفة على أجندة المستقبل.
فهم أكثر عدمية، وأشدُّ وأوسع مدىً من السابقَين، وجميع المثقّفين اللاحقِين، حتى يوم الناس هذا.
وفي الليل، لو حسُن الحظ، وتوفّر كيسٌ، وورق مقوّى (كرتونة أو اثنتان غير مبلولتين)، فهو تمام النعمة... ويصبحُ على خيرٍ، العالَمُ الظالمُ المتفاقم.
فإن لم يكن هذا بشعْرٍ فما هو الشعر في التعريف الوجودي لا الأدبي؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا