"بل في الصحراء": الرواية تسبق التاريخ

21 مايو 2023
من مدينة أريحا الفلسطينية عام 1938، فترة الاحتلال البريطاني (Getty)
+ الخط -

ما يُغري بقراءة رواية الكاتب البريطاني آلان غولد (1945)، "بل في الصحراء"، التي نقلتها إلى العربية، على نحوٍ لم يُراع أحياناً النحو العربي، لمى عمّار، وصدرت عن "منشورات الجمل"، أنّها مبنيةٌ على قطعة من تاريخنا، بل هي مبنية على عودتنا الثانية إلى التاريخ، حين انتهت الولاية العثمانية على البلاد العربية، بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأُولى، ودخول الغرب الأوروبي، بدعوى الانتداب، إليها.

إنّها الحقبة التي حالف فيها الشريف حسين هذا الغرب ضدّ الأتراك، موعوداً باستقلال العرب وتوحيدهم، وهو الأمر الذي نكثه الغرب، واستبدله بانتداب توزّعته دولُه، ما جرّ حروباً وانتفاضات، كما تأسّست دول في المنطقة، من بينها العراق وسورية وفلسطين ولبنان. هكذا خرج العرب من الهمود التاريخي، الذي استمرّ قروناً تحت السيطرة العثمانية، وبدأوا تاريخاً ثانياً.

هذا ما نعرفه بحذافيره. ولم تخرج عنه رواية "بل في الصحراء" ولم تُضف إليه، أو تُبدّل فيه. نحن في رواية غولد نترسّمه، كما هو، بتفاصيله ومراحله. هكذا سنبدأ بمسعى الإنكليز لاجتذاب الشريف حسين، حاكم الحجاز، وما جرّته هذه المحاولة من وعود، وما أعقبته من وقائع، وما انتهى إليه أمرها، وأمر الأسرة الهاشمية، والمنطقة كلّها، بل هو، بالدرجة نفسها، يصدر عنها.

لم تَخرج الرواية عن التاريخ الذي نعرفه ولم تُضف إليه

أحداثٌ وتفاصيل لا تغيب عن ذاكرتنا، ولا تخفى على أحد. بل إنّ تاريخنا الحديث لا يبدأ فقط بها، بل هو، بالدرجة نفسها، يصدر عنها. الرواية لا تتعدّى هذه الذاكرة، ولا تخرج عنها. لم يخترع آلان غولد غيرترود بن، أو توماس لورانس، بطلا روايته، وهو بالطبع لم يخترع الشريف حسين وأولاده، وبخاصّة فيصل وعبد الله اللذين ملكا على العراق وشرق الأردن. لم يخترع بالمقابل بيرسي قدس وأرنولد ويلسن ووينستون تشرشل وسواهم، بل لم يخترع بالطبع ما كان هؤلاء يخوضونه من أحداث، وما يجري عليهم من وقائع.

هذه جميعها ترد في رواية آلان غولد بمواقيتها الحقيقية، ومواعيدها، ومجرياتها. بل إنّ الكاتب يبقى عند ما يصل إليه من علاقات بين شخصياته، وما صحّ من أحوالهم، وما دار بينهم. سنقول لذلك أنّ الرواية، من هذه الناحية، تكاد تكون تاريخاً، بل هي هكذا، تكاد تكون وثيقة، إذ إنّ بنيتها الأساسية، كرواية، هي النفاذ إلى دواخل هؤلاء الأشخاص، أو ما يخطر أنّه دواخلهم، أي أنّ الكاتب يسعى جهده لتمثّل ردود الأشخاص، بناء على ما يُعرف عنهم، وما تناهى إلى الآخرين من صفاتهم وردودهم وطبائعهم.

ستكون غيروترود ما ذاع وما استقرّ عنها، كذلك سيكون توماس لورانس، ولن يكون فيصل سوى ما شاع عنه وما تناهى منه. لا يجازف غولد بأن يخترع لهؤلاء شخصيات من أي نوع، ولا أن يُضفي عليهم، طبائع ومواصفات لم تُعرَف لهم. مع ذلك فإنّنا أمام رواية بكلّ معنى الكلمة. نحن أمام تأليف بحت، فرغم أنه يبني على الوقائع، ويستمدّ من التاريخ، فإنّه رواية بما يعنيه ذلك من الأدب ومن الرواية. في ما يتجاوز ستمئة صفحة، لم يقتصر عمل آلان غولد على التوثيق وعلى التاريخ وعلى سرد الوقائع. لقد بنى على كلّ ذلك. لكن البناء نفسه ليس أيّ عمل. البناء ليس مجرّد استمداد، وليس نوعاً من النسخ، وليس بحت تقليد.

بل في الصحراء

يبني غولد على أحداث حقيقية، وشخصيات حقيقية، وعلى واقع وتاريخ. لكن هذه مادة كبيرة، على المؤلّف إعادة تأليفها. إذا صحّ أنّنا أمام واقع، فإنّ هذا ليس قشرة من الأحداث، ليس فقط مجرّد سطح وعدد من الحوادث. الواقع يحتاج إلى قراءة ثانية، يحتاج إلى إعادة تأليف، وإلى كتابة أُخرى. يحتاج إلى أن يتحوّل إلى رواية، وأن يُكتب كرواية. ذلك لا يستدعي بالضرورة تحوير الوقائع، أو صناعتها وابتكارها. إنّه يحتاج إلى رؤية روائية لها. هذا يعني بالضرورة درجةً من التأليف، بل تأليفاً بكلّ معنى الكلمة.

الواقع ليس مجرّد سطح أو قشرة، إنّ له عمقاً وماهية وجوهراً خاصّاً، وهذه أمور تتطلّب بناءً وتأليفاً، تتطلّب نفاذاً إلى الواقع وإعادة تأليف له، وإضافة عمق خاصّ لا يتسنّى إلّا بالفن أو بالرواية، أي بالسرد والأدب. هذا ما فعله آلان غولد، لقد صنع مقابلاً روائياً للواقع، أي صنع من الواقع رواية حقيقية. هذا ما جعل من الوقائع والشخصيات والعلاقات تتعرّض جميعها لسبر روائي، أي أنّها تجري هكذا في مسار ينتمي بكلّيته إلى الأدب، وإلى الخلق الروائي.

هكذا لا تعود غيروترود الشخصيةَ التاريخية، بل تجرى إعادة خلقها روائياً. الأمر نفسه ينطبق على لورانس، وعلى فيصل، فهُم هذه المرّة تأليفٌ بحت وسرد بحت. هم هذه المرّة، من دون أن يتخلّوا عن حقيقتهم، نتاج لعبة أُخرى، تعود بكلّيتها إلى الأدب. نحن نقرأ لا لنتحقّق من التاريخ، بل لنواصل متعة من نوع ثانٍ، متعة الفن. هكذا يؤلّف غولد، بكلّ ما يعني ذلك، من دون أن يتخلّى عن الواقع الحقيقي، بل بقدرة كبيرة على تناوُل آخر، ولعبة أُخرى للواقع، بحيث لا يبقى الواقعَ نفسه، بل يستحيل أدباً.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون