بلا خريطة حتى نهاية العتمة

29 اغسطس 2022
آنا لويزا أمارال في مدينة البندقية الإيطالية، آذار/ مارس 2015 (Getty)
+ الخط -

أدامستور*

في ذلك الزمن كان ثمَّة نوعٌ من الشمس،
كانت على سطح الماء،
وكنتُ أنا في أعماق البحر

وكنتُ أرى ذلك السُّطوعَ دون أن أعلم أنها الشَّمْسُ،
مجرّد خطّ منتشر كانَ يضيءُ
أمكنة من الأبد

كنتُ أنا أسكنُ أعمق الأعماق،
فيه تسطع
عتمتي

مرسوماً بين الطمي والحجر والكابوس،
كنت أنا الكابوس
وبعدُ كنتُ لا أزال غير عارف ما أستطيع أن أكون

غذاء لأشعار وأحلام،
ألسُنٌ جديدة
تتحدَّثُ عن وهداتٍ

لقد ابتدَعوني هنالك،
في ذلك الزمن،
في هذا الصِّنفِ من الشمس

والمداعبة لا تَصِلُ إلى أن تقولَ جسداً،
وجسدي كان من حجر
في تحوُّلٍ

وسمَّوْني جسداً،
وجعلْتُ نفسي جسداً،
وسمَّوْني وحلاً،

وصار الحجر في جسدي وحلاً،
ووهبوني شعراً،
وفماً، ونظرةً

فَنظرْتُ من الأعماقِ،
من أعمق الأعماق التي كنتُ أعِيشُ فيها،
وصرختُ، مكشوفاً،

وعارياً وجَبَّاراً،
فَسَمِعَنِي
البحرُ

لكن ما انبثق منه، عميقاً،
كان الجزء منّي
الذي لم يكن شيئاً

والآخرُ، الذي لا أعرفه،
ذاك الذي لا صوت له
بقي في الظلماتِ

بعدُ ينتظرُ أن يتم ابتداعه.

* أدامستور: شخصية أسطورية ابتكرها الشاعر البرتغالي لويس دي كامويش في ملحمته "اللوسيادا" (1572)، وهو يمثّل رمزا لقوى الطبيعة التي كان يجب على الملّاحين البرتغاليّين التغلّب عليها خلال رحلاتهم البحرية الاستكشافية.


■ ■ ■


الإفراط الأكثر اكتمالاً

كنت أرغبُ في قصيدةٍ ذات تنفُّسٍ متوتِّرٍ
ودونما احتشامٍ.
مع الأناقة المكتملة للنساء الباروكيات
وشجيرة رقيقة في واجهتها المعكوسة 
قصيدة حين يراها روبينز، للتوّ يشعر بالحسد،
من عمق ثلاثة قرون،
بجسد فاتن تستلقي على مُتَّكَئٍ،
وذراعاها عاريتان، تنحنيان
بأساور جِدّ (بل وجِدّ) ساحرة،
وكوبيد في القمة، 
في محرابه من سحاب،
حتى يرعاها بحنو.
كنت أرغب في قصيدة كهذه.

أبعد من مثاليات الإغريق العليا 
للتوازن،
قصيدة قُدَّتْ من إفراطاتٍ ومذهبة،
ومع ذلك جِدّ فاتنة في اندفاعها المعتم
والصوفيِّ.
آه كم أرغب في قصيدة مختلفة
من صفاء الغرانيت وصفاء الأبيض،
وجلاء الأشياء الشفافة.
قصيدة تبتهج في الغَمِّ
شجيرة وردٍ رَحبَة الآفاقِ بلون الدم.
منتزه كامل من شجيرات ورد حيثما تهب الريح،
وعند مرورها، تتوقّف منبهرة
وساهرة. وهنالك ستبقى سجيناً في غناء
أساورها جِدَ (بل وجِدّ) 
ساحرة.

عاريةً، وبأشكال دائرية، كنت أرغب في قصيدة كهذه.
إصلاح مضاد للصمت. 

موسيقى وموسيقى وموسيقى تملأ جسدها
والشعر في ضفائر مجدولة من أزهار وثعابين،
ونبع دهشة متعدد الأصوات
يتدفق من أصابعها.
مستلقية على متكئ مفروش بالمُخملِ،
عريُهَا المستديرُ والكاملُ
سيجعل جنيات البحر تشحبُ.
والمعابد التعسة ذات الخطوط المكبوحة الصافية جدّاً،
ترتجفُ من الخَوفِ فقط بسبب بريق 
نظرتها الساطع، المذهّب.

موسيقى وموسيقى وموسيقى وانفجار الألوان.
موريللو، هنالك يترقّبُ من أعماق ثلاثة قرون،
صامتاً، حين يرى مدى بساطة ملائكته
جنب الملائكة العراة في هذه القصيدة،
وهم يغنّون في حشد مع نجوم 
ذهبية أُخرى
ترانيمَ حُبٍّ وإفراطٍ مُكتملٍ. 

يشحبُ الآن لون غونغورا،
بعد أن تأملها.
هذا الإصلاح المضاد للصمت.
ترتفع يده باتجاه السماء محملة
بالعدم. 
 

■ ■ ■

 

حلب، ليسبوس، كاليه، أو بكلماتٍ أُخرى

أريد أن أتحدّث عمّا كان في السابق شوارع ومَحَجَّاتٍ
مطرّزة بالبيوت والنخيل وزرابي كُنَّا في سالف الزمن
نتخيلهَا تُحلِّقُ من السحر
وهي الآن تتلاشى في أشكالٍ أُخرى،
أشكالٍ أشدَّ جلاءً

أو من زمن الشعر قبلُ، لمَّا كانت السفن
تلجُ، رشيقة، وتصيرُ الكلمةُ
بجلاء الصورة، وجلاء العنف بعدئذ وجلاء ذلك الزمن،
بوابة ولوج قوارب خشنة لأجل العنف من قرون الآن

أو حتى من خيوط تقطرُ بأناس
يبدون مثل محيطاتٍ عبرَ عدساتِ المسافة، وخرائط ضخمة،
لكن مع تقسيمِ الناس إلى أناس متفرّدين، تفيض بأسماء
كاملة، وأذواق خاصة، ومكابدات متنوّعة، عضلات
لأجل أن يبتسم الجميع بشكل مختلف،
أواه، تصيرُ العدسة الشاسعة جدّاً
ضيقةً، مجهراً للحياة

لِمَا أراه من بعيد وفي الشاشات
لا أستطيع أن أتحدّث وأنا أستعملُ المقاطع الشعرية الملتفّة،
الأبيات الدائرية، تركيباً مهذّباً ومُتماثلاً
أرغبُ في هذه السطور التي أتحدّث فيها عن سطور أُخرى
مصنوعة من مادة أُخرى، حقيقية وقاسية ومستغلّة، هذهِ،
سجينة بسترات وأسلحة بِلوْنِ الدخان،
بجوار محيطاتٍ من الناس،
الرواسب التي تحيا في أناسٍ آخرين،
أولئك الذين هم جيراني، الحِقدُ المبنِيُّ على مَهَلٍ
مخدوشاً في الفظاعة

لأجل ما يبلغه المرءُ عند النظر، لأجلِ قشرة القرون التي يبدو فيها 
كلّ شيء سلعة سهلة النسيان،
أو أنّ المنفى تركنا على سطح الجينات
ووحدهُ يتم تذكره، ووحده يصلح لإلحاح الرعب،
لأجل كلّ هذا ليس ثمة شكل من الشعر يكفيني
لأنه ليس ثمّة ما يكفيني من العزاء أو السلام

كلما ألحَّ الغضب،
وعلى تخوم حافة أوروبا هذه،
التي بعدُ لا تخجل من أن تكون بعيدةً وتحت الرعاية،
ومحمية خلف عدسة شاسعة جدّاً
لا تسمح بمرور أكثر من حفنة صُوَرٍ جدِّ دقيقةٍ
أو بكلماتٍ أُخرى، العمى ...

أو حتى بدون كلماتٍ: الغضب.


■ ■ ■


سهلٌ أن تقتُل

قتلتُ (بكل سهولة) بِظفري
بعوضة صغيرة
نزلتْ دونما إذنٍ وبلا ترخيصٍ
على الورقة
كان ذلك لاجوهرياً للغاية،
بأجنحة غير محسوسة على مرأى العين،
تركَت، وهي ميتة على الورقة، أثراً
مماثلاً للاشيء تقريباً
لكنّه كان أثراً
مع ما تبقّى من السحر، ذريعة
لقصيدة، مع سائلها اللمفاوي يحترق
لزمنٍ جدِّ قصير
حتى أنّ حياتي
ما كانت لِتَكُفَّ عن أن تكونَ
زمناً حيّاً
قد صُرِعَ بدون رمحٍ أو خنجرٍ
بدونِ مادَّةٍ قاتلةٍ
(سيانيدُ جديرٌ أو إستركنين)،
ماتَتْ ضحية لِظُفرٍ،
وعادتْ إلى الهباء:
دقيقاً مسحوقاً سريعَ الزَّوالِ
لكن يجب أن تحتوي
تماماً مثل أقاربها
شيئاً ملموساً،
سوف يكون بعد مئة عام من الآن،
المادّة نفسها،
تلك التي تُغذِّي دفءَ شاعرٍ،
الوجه الذي أحَبَّهُ،
قطعة الورق التي أكتبُ عليها،
أصغر نقطة هادئة
في ذيل طيارة ورقية.


■ ■ ■


الحرب

في الردهة
يوجد حذاؤك العالي الأسود
على أتمِّ الاستعداد،
قد عفا عليه الزمن، رغم
مكانه

الردهة
ليست مكاناً للأحذية العالية:
متدنٍّ في المَمَرِّ،
يقترح أفكاراً على العتباتِ،
ولاداتِ حركةٍ،
عملياتِ ذهابٍ وايابٍ

مقطوعُ الأوصالِ
معَ المكان الذي كان ينبغي يوجد فيه،
حذاؤك بفردتيه
يُكثِّفُ الملتوي
مِنَ المَشهَدِ القاسي

والأدهى أنَّ وظيفته
في الحياة
تكشفُ أيضاً
فراسخ 
ليست لك.


■ ■ ■


أشياء الرحيل

أحاول أن أدفعك من أعلى القصيدة
حتى لا أهدمها في انفعالاتك:
عيون شبه مغلقة، في احتياطات للزمن
أحلم بها من بعيدة، حرّة بكاملها، بدونك.

منها أغيِّبُ: عيناك، ابتسامتك، فمك، نظرتك،
كل الأشياء عنك، لكن أشياء الرحيل...
في حذري يولد: وإن مُتَّ هناك،
في وسط الأرض دونما نص يكون غائباً عنك؟

وإن لم تعد تتنفّس؟ إن لم أعد أراك أكثر
لكوني أرغب في أن أدفعك، غنائية انفعال؟
وهل ينمو ذعري: إذا لم تكن هناك؟
وإذا لم تكن حيثما تكون القصيدة؟

أنا أقوم معك بالتنفّس بشكل إيروتيكي:
أوّلاً ظرف، وبعدئذ نعتٌ
ثم أبياتٌ شعرية كلّها انفعالٌ ووعود.
وأنتهي معك فوق القصيدة،
حاضرٌ إشاريّ، مقالات في العتمة.


■ ■ ■


أصوات أُخرى

أن أغمض العينين وبالداخل رجعُ صدىً من مَاضٍ.
أن أفكّرَ "كان بإمكاني أن يكون لون بشرتي آخر، مظهرٌ آخر".
وأن يعود الزمن القهقرى، وأن ألجَ داخلَه،
كما لو في دوامة.
أن أختار
أن أرتدي زرداً من شِبَاكٍ ومن ملح البارود،
وأن أكون قد بكيتُ لمّا كَفَّ الميناء عن أن يلوح لمرأى العين،
بعيداً على مسافة آلاف الأميال،
بعد شهور مليئة بالصدمات المرعبة

حالاتُ حُمَّى ورعشات خلالَ الرحلة البحرية،
الماء المر، والليالي
المليئة بالنجوم
جنب اهتزازات المركب، أسطرلاب

في صباح مشمس، من المرقب
أنظر في أعماق المنحنى العذبِ،
الخط البعيد جدّاً تقريباً مثل كوكبة نجوم.
وأصرخ "اليابسة!"، الصراخ للرفاق
في أعماق المركب، الصراخ من أعماق الرئتين،
وبعدئذ القارب، والمجاديف المديدة،
السرير من رمل والأشجار.

أو أن أحملَ على الرأس ريشاً ملوّناً،
وأتعرفَ بشكلٍ عميقٍ على الرمل الأبيض
والبحر الذي بلا قاعٍ، أسماك يجري اصطيادها بشكل عشوائي من يوم لآخر،
لسان يصلحُ لتسلّق النخيل،
لممارسة القنص وسرد حكايات

صقلِ حربة، الشروع بعظمٍ
أو حجر أو خشب،
الاشتغال على جسدٍ من الخشب، وشحذ الحدِّ القاطع.
النظر في مهلٍ إلى نتيجة الاشتغال
والانتظار.
أو الجمال. أن تختار

أن تجلب النار في يدك، المتخفّية في البارود،
وتشعل ناراً على ضفّة الغاب.
ضحكات الأطفال، لمسُ الرمال البيضاء، لمسُ
جلد آخر. قاسٍ
هو الخوفُ، الارتيابُ بين الجوع والخوف.
أو ألّا تختار

الريش الملوّن على الرأس خوذةً
السترة من الشّبَاك تُلقَى في الهواء مثل سهمٍ،
غناءُ العصافير فوق الرأس
ومحاكاة غنائهم،
في بحيرة مياه عذبة غسل الجسد 
وخطايا التخيّلاتِ،
الإحساسُ بالليلِ داخلَ الليل،
والجلد جنب الجلدِ،
وتخيُّلُ مكانٍ بِلا عُمْرٍ

تغيير النار المتخفّية بنار التحْذير،
الحربة بالنار التي تتقدّم،
والصراخ: "ها أنا ذا، أيتها الحياة!
بلا ذهب وبلا فضة.
بالفضّة أصوغُ خاتماً 
وكرة نارية زائفة،
وبالنار الحية أصنع جسراً يبلغُ
قمّة أطول نخلةٍ

انسوا الراية في المركبِ،
ثم اتركوا خلفكم الرمال البيضاء، واسبحوا حتى المركب،
دعوا الريش الملوّن جانباً،
أحضروا الراية واقطعوا أوصالها.
اصنع شراعاً وزيّنوه بالريش،
بينما يذوب،
تحت النار المتأجّجة لعدة ليالٍ،
الخوذة والسترة من شباك

سوف تمنح الشراع ثباتاً،
مركباً جديداً مليئاً بالأسماك
اللامعة مثل نجوم

لا تختر بحراً ولا أفقاً.
وانطلقْ مُبحراً بلا خريطة حتى نهاية
العتمة.


* ترجمة: خالد الريسوني

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون