في الحرب، أثناء القصف، يولد من هول الصدمة الهذيان. في الحرب، بعد القصف، يولد من هول الصدمة المونولوغ. تسود الهذيانات، وتعقبها المونولوغات. ولا يعود الضحية بحاجة للحوار، إلّا نادراً، وفقط حين يحتاج ضرورات العيش، على غفلة. في الحرب، خلال القصف وبعده، يتغيّر المنظور البشري لكلّ المفاهيم، ويصبح مفهوم "الواقعية"، عبر الحواس الخمس، غير واقعي، وأقرب إلى وهم منه إلى الحقيقة.
أتّصل بعائلتي النازحة في المدارس، كلّما يتوفّر نِت، وتُخبرني ابنتي الحاصلة على درجة عليا في علم النفس أنّ غير قليل من جيرانها السبعين في الغرفة، لم يخرجوا من "الرضّة" بعد، رغم مكوثهم مدّة تنوف عن الشهر. تقول إن خِطاب النازح الطويل يكاد يتحوّل، وهو في زحمة الجموع، من ديالوغ إلى مونولوغ، في هذا الانقلاب المفاجئ على روتين حياته.
تقول إنّ غزّة، لو كُتب لأهلها البقاء على الأرض، بعد نهاية يوم القيامة (ولسوف يُكتب بالصمود والمقاومة)، أحوج ما تكون إلى عمل إعجازي مادّي في جميع المجالات: إلى حركة بعث من الصفر، ومن ضمن هذه الحركة، ضرورة توفير جيش من الأطبّاء والمعالجين النفسيّين، حتى لو بدا هذا ترفاً، بمقاييس الحال والمآل. تقول إنّ اللغة وطن بالعموم، ولكنّ من يفقد بيته (والوطنُ بيتٌ)، يفقد لغته أيضاً. تقول إنّ نوعين من اللغة، غير ما سبق، يشيعان في أمكنة النزوح: الهمس والصمت. الهمس تلبيةً لحاجة قصوى، والصمت تعبيراً عن استدعاء كلّ ما يعصى على التعبير. ينقطع الاتصال، وأصفن.
ثمّة نوعان من اللغة يشيعان في أمكنة النزوح: الهمس والصمت
لقد شاهدتُ ملامح من كلّ هذا في جيل النكبة الأول، حتى بعد مرور ربع قرن على ما حدث. كانت جدّتي وجدّي وأمّي وأعمامي وأخوالي، بشراً أميَل للصمت، من المبادرة بالكلام. كنت أجلس مع أمّي بالساعات ولا نتكلّم. مع جدّي وجدَّتَي كذلك. من قال إنّ سرقة وطن، وإرسال ناسه إلى جحيم اللجوء، يمكن التعبير عنهما بالكلام، والكلام محض زفير مُتكسّر؟ لقد عانيتُ من هذا مثلما عانوا تماماً. وإلى اليوم، فإنّ الجوهري في الرواية، لم ينكتب، لا شعراً ولا حتى نثراً، خلال مسيرة شخصية تكاد تصل إلى نصف قرن، مع مجالَدة الحرف.
ثمّة محظوظون من أدبائنا اجترحوا الجوهر، في مصائد اللغة، ولكنّي لست منهم، بأيّة حال. إنّها مسألة موهبة، يدعمها استعداد لاستدعاء أصداء الحدَث المفصلي، دون الخوف من تهتُّك العَصَب وانكماش الرئتين، وانعطاب القامة. لا بأس... فالأهمّ الآن، ألّا نسمح لعدوُّنا بوضع بصمة المكوى على جلودنا، مثلما حدث عام النكبة.
لقد تغيّر الزمن، وارتقى الوعي الفلسطيني الجمعي، فوصل إلى مرتبة الندّ، مغادراً دور الضحية البكّاء الشكّاء، وقد طاوله العجزُ والانكشاف. وها هو اليوم يؤلمهم كما يتألّم، ويضرب على عصبهم العاري، فلا يجدون سوى الحلّ الرخيص والخسيس والأسهل: التوحّش على المدنيّين الآمنين تحت سقوف بيوتهم، واغتيال الأطبّاء والمرضى، في الأروقة، وعلى أسرّة المستشفيات.
* شاعر فلسطيني مُقيم في بلجيكا