استمع إلى الملخص
- في البداية، ظن البعض أن بشار سيكون مختلفاً عن والده، لكنه سرعان ما حاول تقليد استبداد والده، مما أثار الشكوك حول نواياه.
- ورث بشار نظاماً مفلساً، وسرعان ما غرقت سوريا في حرب أهلية، مع ظهور جماعات متطرفة، مما أدى إلى فضائح النظام وترك البلاد في حالة من الفوضى.
بالقياس الى أبيه حافظ الأسد، كان بشّار يبدو باهتاً وصغيراً. كان لحافظ سمت الديكتاتور وتخييله، كان حتى تواريه النسبي يبدو مشحوناً بالمعاني التي تواكب كلّ غياب. تواريه هذا كان صدىً لشكله العادي، الذي عاديته نفسها تنطوي على المعنى الذي يوحيه حضوره، الصرامة إلى حدّ الفرض، فقدان المعنى إلى حدّ الفيض به، سمت التقليدي إلى حدّ الخروج من جلده، والتهديد المبطن في نظرته وحتى في ابتسامته التي لم يكن وجهه جاهزاً لها، إلى حدّ تبدو هي معه تهديداً مبطناً. مبطن هذه هي الكلمة، لقد صنع تاريخ حافظ الأسد المتواري في سيرته له هذا الحضور، وذلك الوجه العصي على التفسير، والذي يزداد استغراقاً في جموده وسكونه إلى حدّ مقلق، إلى حدّ يُحيّر جليسه وحتى الناظر إلى صورته.
الذكريات التي نقلها مجالسوه عنه لم تكن مختلفة، يتكلّمون عن طلاقته في الكلام إلى حدّ الثرثرة، لكن هذه الطلاقة استرسال يحرم جليسه من حقّ الجواب. كان يتكلّم لساعات كما قيل، ويتدفّق بالكلام فيما جليسه يبحث عن فسحة له ليُجيب وليكتشف أنّه لا يجدها بسهولة، فحافظ الأسد يُلقي كلامه إلقاءً ولا ينتظر جواباً. إنّه لا يحاور، بل يملي. في ذلك لا يشبه القادة الذين يزِنون كثيراً كلامهم في العادة، بحيث يمنحونه ثقلاً ورجعاً تخدم فيه قلّته وإيجازه. حافظ الأسد لا يفعل سوى احتكار الكلام، والاحتفاظ بحقّه.
بشّار لا نعرفه من هذه الناحية. نعرف أن لم تكن له فصاحة أبيه، الذي يخطب بصوت رتيب يناسب شخصيته، لكنه لا يخطئ في النحو وفي رصف الجمل. بشّار الذي لا نعرف حقاً ماذا حصّل في الطب، كانت لديه صرامة أبيه، لا فصاحته. كان صوته هادئاً ورتيباً حين يتكلّم، لكنّه قلّما يقول ما يلمع. كان لكلامه ما يشبه هيئته، طول لا يكاد يستقيم ونظلّ نراه قريباً من الانحناء. عنقه له أيضاً ذلك الطول المحيّر، والذي نشعر إزاءه أنّه يكاد يلتوي، ويكاد يخرج عن طوره.
الابن الذي تبع أباه ظلّ الوقت كلّه يستحضر أباه في كلّ شيء
قيل فيه إنّه كان مرشّحاً ليُصبح طبيب عيون، وإنّ ما أتاح له كرسي الرئاسة مقتلُ أخيه البكر في حادث سيارة مباغت ومحيّر. لم يكن معدّاً لهذا المنصب إلّا حين خلا له. حسب كثيرون أن هذه البداية ستجعله غير أبيه، بل نُقل عنه أنّه في البدايات تقرّب من مثقّفين لم تكن لهم شبهة الولاء للنظام، بل كانوا أحراراً في تفكيرهم إلى حدّ اشتُبهوا فيه بالمعارضة، حسب كثيرون أنه قد يكون الابن المستقل، لكن الابن الذي تبع أباه ظلّ الوقت كلّه يستحضر أباه في كلّ شيء، بدون أن يكون له المستوى نفسه. ظلّ في طلّته، وفي صوته، وفي عنفه الصامت وشهوة القتل الخافية فيه، ظِلّ أبيه. بقي أبوه خامداً فيه، بل بقي هو أباه الخامد وإن ظهر منافساً له؛ إذ إنّه باراه في القتل وفي الاستبداد، إلى درجة أتاحت الشبهة في أنّه كان يكره أباه.
وصل بشّار إلى حُكم مفلس، أو على وشك الإفلاس. لم يكن لديه ما يضيفه، عليه فقط أن يحافظ على الإرث المتهالك الذي صار إليه. لقد ورث سورية صامتة وخفية وبلا صفة، كما صنعها حافظ الأسد. سورية النكرة هذه لم تلبث أن اختنقت بحرب أهلية، لم تكن هي الأخرى أقلّ إرباكاً. لم تكن النخبة التي باشرتها قادرة، فتراجعت وتركت الساحة لداعش وما تبعها. بعد داعش كانت جماعات من الصنف ذاته، هيئة النصرة وبعدها تحرير الشام، جماعات إسلامية لكنّ الأمر لم يعُد في بال أحد. حينما وصلت تحرير الشام إلى دمشق، لم يكن السؤال هو هوية المنتصر، بقدر ما كان الفضيحة التي يعيش النظام الأسدي عليها، والتي انفجرت بمجرّد أن غادر.
لم تكن مجهولة، لكن سورية كلها قد أضحت بهذا العهد نكرة وخفية وخرساء. في لحظة واحدة بدأت الفضيحة تخرج من خفيتها، وتنفجر في كلّ مكان، حتى أنّ بشّار نفسه غادر في هذه الجلبة الهائلة، ولم ينتبه له أحد. كان صدى الانفجار أعلى من كلّ شيء، لم يسأل أحد عن هوية المنتصر، حتى إسلاميته هي الأُخرى ملبسة. لم يتكلّم أحمد الشرع كإسلامي، اجتهد ليتكلّم بلغة غير مسبوقة، لم يعد المثال الأفغاني مطروحاً. كان معزّياً أن نسمع صوتاً إسلامياً يقول الديمقراطية والسلم الاجتماعي والاستقرار. لم يسأل الناس عن إسلامية هذا الخطاب، ولم يشكّكوا فيه. كان الأهمّ هو انكشاف النظام الذي ترك محلّه قتلى ومخنوقين في كلّ مكان.
بشّار الأسد لم يكن في مصاف أبيه هذه المرة، لقد انتهت به حيرته إلى السقوط. لكن أيّ سورية تركها؟ سورية القتل والجوع والتهجير، ليس أمام ذلك فرصة بعد للاستبداد، ليس أمامه حظ بمجازر أُخرى. حين يتكلّم أحمد الشرع عن الحرية، نفهم أنّ هذه هي كلمة اليوم، أن ليس لديه سواها. لا نعرف ماذا سيتبع ذلك، لكن لنا أن نأمل بأنّ أيّ حكومة جديدة لن تجد أمامها سوى هذا البرنامج، لنا أن نأمل أنّ بشّار لن يعود، وأنه سيحمل حافظ الأسد معه إلى هناك.
* شاعر وروائي من لبنان