في كتابهِ "العنف"، يورد سلافوي جيجيك حكاية الضابط الألماني الذي قام بزيارة بيكاسو في مرسمهِ في باريس أيام الحرب العالمية الثانية واحتلال باريس. وصُعِقَ الضابط بلوحة "غيرنيكا"، فسأل بيكاسو: "هل أنتَ من فعل هذا؟" ليرد بيكاسو: "لا أنتم فعلتم هذا". يَسوق جيجك هذه الحكاية وهي معروفة نسبياً، للإشارة إلى المنابع الأصيلة للعنف، لا إلى السواقي. ليشير إلى الصوت، لا إلى الأصداء التي تتردّد لدى المقهورين.
تتأثر الفنون في ما تصوّره وتشهدُ عليهِ، بطبيعة عصرها. فالفنّان يترك آثارَ زمانهِ في الآثار التي يتركها في أعمالهِ. حتى أنّ لوحة "غيرنيكا" ذاتها، التي فاجأت الضابط الألماني، كانت عملاً للتنديد بالوحشية والحرب، وقد كلّفت حكومةُ الجمهوريين بيكاسو برسم لوحة تنقل مآسي الحرب الأهليّة الإسبانيّة، من جرّاء جرائم فرانكو الذي سانده الطيران الألمانيّ في قصف بلدة غيرنيكا (1937)، وقد جالت اللوحة في بلدانٍ كثيرة تحمل رسالة السلام.
لا يستطيع الفنان أن ينجو من تهمة معاصرة زمانهِ. ووجوده في زمنٍ ما، يجعلهُ شاهداً، وفي مشاهدة الجريمة نوعٌ من التورّط. بذلك يمكن لمتلقّي الفنّ أن يتساءل لا عن براءة الفنون من العنف الذي يُمارَس أمام الفنّان أو عليهِ وعلى شعبهِ. وإنّما يتساءل تساؤلات الاستجابة وممكناتها. كيف تستجيب الفنون مع الصور القاتمة التي باتت تحاصر البشر، وترميهم في شِباكِ الاكتئاب والعجز والموت؟
كانت الاستجابة لدى بيكاسو استجابة جماليّة، عبر رسمِ صورة المناجاة والاستغاثة، لأناسٍ كانت بلدتهم تحت قصف الطائرات. والاستجابة الجماليّة إزاء القبح الذي يسوّر حياتنا ويملأها، هي حكرٌ على فنانٍ يعي شرطه، ويتمكّن من أدواتهِ بالقدر ذاتهِ.
ثمة مفارقة تقع عليها الفنون عند تصوير الحرب، فللأخيرة أدوات معروفة وصارمة، لها محدّدات، ومناطة بها وظائف، تقوم بها جماعة في وجه أُخرى.
لا يستطيع الفنان أن ينجو من تهمة معاصرة زمانهِ
أمّا الفنونُ فتقع على جانب آخر مختلفٍ ومغاير، إبداعي وفردي، وليس يسيراً صناعةُ عملٍ فني يحاكي الحرب. كما يصعبُ على البشر الاتفاق على ما يرونهُ فناً، في حين لا يصعب على بشرٍ - لم تعطب الأيديولوجيا عقولهم - الاتفاق على ما يدعونهُ حرباً. بذلك يحاذر الفنّان التعاطي مع مسألة الحرب، فهي ليست ساحته. وصعبٌ أن يتناول الجماليات في موضوعٍ موحشٍ كالحرب، يقاسي منه البشر.
عايش غويا احتلال فرنسا لإسبانيا (1808 - 1813)، وتبدو اللوحات التي رسمها، قادمةً من عالمٍ مهدّدٍ وجنائزي، وحشي ومرعب. إذ يترك لدى البشر ذلك الانطباع العنيف الذي تخلّفهُ الوحشيّة. ذلك الانطباع العنيف، هو ما يتركهُ الزمن في الفنّ. لكنهُ لدى غويا انطباعٌ قاتم، فيهِ ما يشدّ المتلقّي وما يعذّبه في آن واحد.
العالم من حولنا يفقد جزءاً من إنسانيتهِ يوماً بعد آخر. كثيرون يصرخون، في بلدان منهارة، بأنّنا لم نعد نحتمل ما يحدث من حولنا. عدا عن تعذّر فهم الطريقة التي باتت الحياة تسيرُ وفقاً لها، إذ بات البشر يجدون أنفسهم مجرّد أرقامٍ في الحرب. أو مجرّد أشخاصٍ مُسيّرين وقد دخلوا في نمط عيش، حتى الأشياء التي تبدو عفويّة فيهِ، قد تكون من صنعِ نظامٍ ما. البشر اليوم مجرّد سلعة؛ أُسوة بذلك يمكن فهم الفنّان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان الذي علّق "الموزة" باستخدام شريط لاصق في معرض فني، ودعا ذلك فنّاً، وكأنّه يريد أن يقول: أنتم مجرّد سلعة أيضاً.
قد لا تستطيع الفنون تحرير الإنسان، لكنها بالتأكيد تضع بصمتها. وهي بصمةٌ، وإن كانت تشيرُ إلى ما عاصرهُ الفنّان، فإنّها في الآن نفسهِ تتجاوزه. فما يتركه وراءه من رسم أو نحت أو كتابة ما هو إلا انعكاسٌ لمآل الحياة وتصوّراتها.
* كاتب من سورية