الوقائع كالحقائب

02 يونيو 2023
سيف وانلي/ مصر
+ الخط -

في كافّة مراحل الدراسة التي مررنا بها، كان الطلّاب يكرهون مادّة التاريخ، وكان ظنّي أنها عادةٌ عربية، إلى أن بدأت قراءة كتاب "قيمة التاريخ" لجوزف هورس، فإذ به يفتتح كتابه بمثل هذا بالضبط، وإذ الحال هو نفسه لدى الطلّاب في أكثر من ثقافة، ولدى أكثر من شعب.

والطريف أن كاتباً مثل أندريه جيد قال إن التاريخ يُضجره، بينما كان جيمس جويس قد أعلن في روايته "يوليسيس" أن التاريخ كابوس. ويبدو أن المشكلة التي لا ينكرها إدوارد كار، في كتابه الشيّق "ما هو التاريخ؟"، ليست كامنة في التاريخ نفسه، ولا في الأحداث أو الوقائع الماضية، بل في مكان آخر يردّه إلى ما تقوله إحدى شخصيات الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديللو: "إن الوقائع (التاريخية) كالحقائب، لن تستقيم إلّا إن وضعت شيئا بداخلها".

وبهذا المعنى، فإن الوقائع ليست هي الوقائع، بل هي الأشياء التي وضعناها فيها، أو هي ما أردنا أن نفسّره فيها. والراجح أن الكراهية أو الضجر أو الحالة الكابوسية لا تأتي من الوقائع، بل منّا، نحن الذين نقرأ. هي تلك الأشياء التي يضعها هذا المؤرّخ أو ذاك، فتعجبنا أو لا تعجبنا.

ماهيةُ ما نضعه في حقيبة التاريخ تقرِّر وجهة نظرنا في الحاضر

وماهية الأشياء التي توضَع في حقيبة التاريخ ستقرِّر وجهة نظرنا في الحاضر، وقد يحدث أن وجهة نظرنا في حاضرنا هي التي تُملي علينا ما سنضعه هناك، ولهذا ترى أن معظم المهتمّين بالشأن السوري يُعيدون حشو الوقائع/ الحقائب التاريخية بما يقوّي أو يُظهر أو يؤكّد وجهات نظرهم في الحاضر. واللافت اليوم هو تدخُّل الآلاف من الأفراد، بفضل توفُّر منابر النشر ووسائل التواصل، لتغريم الوقائع التاريخية أثمانَ الوقائع الراهنة. فكلّ واقعة في الحاضر هي مرآة ينظر فيها الناس إلى أنفسهم من خلال حشوة حدثت في الماضي، وكلّ مجموعة وجماعة وحزب وسلطة تعتبر أن الأشياء التي وضعتْها في الوقائع الماضية هي الحقيقة، وهي وحدها التي تُضيء الحاضر وتفسّر حركة الناس.

يصل الأمر إلى حدود الجبر أو القدر، فلا مفرّ لك اليوم ممّا فعله هذا أو ذاك في الماضي، بحيث يبدو أن وقائع الحاضر لا قيمة لها، ولا دور تقوم به غير أن تكون تكراراً أو إعادة، أو نتيجة محتومة لِما كان قد فعله إنسان آخر مثلنا من لحم ودم وفكْر وموقِف، في مكان ما من الجزيرة العربية.

يحصر المفسّرون الجدد الوقائع القدرية في محيط جغرافي واحد، لا يتعدّاه، فأحداث التاريخ في بلاد الشام والعراق ومصر والسودان والمغرب وغيرها، سبق أن كانت قد تقرّرت في شعاب الجزيرة العربية قبل ألف وخمسمئة سنة، ولا مفرّ لك اليوم من أن تقرأ أو تسمع مَن يجزم قائلاً: إن كل ما نحن فيه اليوم قد تقرّر في هذه الواقعة أو تلك الواقعة، في زمنٍ ما. ولدى كل فردٍ حشوة مناسبة تجعل التاريخ يفسّر الحاضر. لا استعمار محتلّ، ولا صهيونية احتلّت فلسطين وطردت شعبها، ولا حركات تحرّر ولا صراع ولا سلطات عسكرية عديمة الرحمة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

 

المساهمون