كتاب مكرم رباح، بل مجلّدُه "النزاع على جبل لبنان"، الصادر مؤخرّاً عن "أُمم للتوثيق والأبحاث"، يُذكّر بعنوان كتاب أحمد بيضون المرجعي "الصراع على تاريخ لبنان" (1989)، ويأتي متزامناً مع كتاب منذر جابر ومجلّده عن سيرة يوسف الزين، التي هي أيضاً تاريخ جبل عامل جنوبي لبنان. الكتابان في هذا الوقت، بالإضافة إلى كتُب أُخرى بينها مُجلّد أحمد بيضون المهمّ عن رياض الصلح، هي خطوات على طريق بناء تاريخ للبنان، بل إيعاز بأنّ ثمّة تاريخاً مُعاصِراً لهذا البلد، تحقّق قُبَيل الاستقلال وبعده.
كتاب رباح، الذي ينتهي بانتصار الدروز في الجبل وخروج المسيحيّين منه، هو التاريخ الجبلي. لكنه أيضاً، وبالدرجة نفسها، تاريخ الحرب الأهلية في لبنان، بل تاريخ لبنان الحديث بكلّ عناصره ومقوّماته وتفاعلاته. إنه أيضاً تاريخ الدروز والموارنة منذ حلولهم في لبنان، وما شاب هذا الحُلول من روايات صحيحة أو موضوعة، وما بُني عليه من أساطير وحقائق. ما نُسب إليه، وما اشتمل عليه، من تواريخ تعرّضت جميعها، في الكتاب، لتحقيق ونقد؛ أي أنّ الكتاب هو أيضاً تاريخ التواريخ ونقدها.
لكنّ كتاب مكرم لا يفتأ يُقيم الصلة بين الإرث التاريخي والحاضر، على نحو لا تغيب فيه ذكريات 1860 عن اليوم والساعة. بالطبع تغيّرت الأمور بالكامل منذ الحرب الأهلية الماضية، من العهد العثماني حتى الحرب الحالية. لكنّ رباح لا يزال يستعيدها، ولا يزال يرجع إليها، كذاكرة تعمل في الراهن، وكحدث تأسيسي بقي ماثلاً لا ينفكّ يُستحضر، ويُطابَق عليه، ويُتّخذ منه نموذج أوّل، وأصل ومثال.
تحقيق في تاريخ لبنان المعاصر قبيل الاستقلال وبعده
خيانة الأمير بشير للشيخ بشير الجنبلاطي، هذه حكاية أُولى لا نزال نستفسرها، ونطابق عليها كلّ مرّة، فهي بالنسبة إلى الدروز خيانة أصلية، تُمثّل كلّ حين وتتكرّر عند كلّ حقبة. في كلّ حقبة ثمّة بشير الشهابي آخر، يعمد إلى خيانة بشير جنبلاطي آخر. من هنا نفهم أن حرب الجبل، رغم اشتمالها على عناصر من زمنها، بل وقيامها على هذه العناصر، وصدورها عنها، فإنها أيضاً، وبالدرجة نفسها، تستمدّ وتتغذّى من ضغائن تاريخية، ومن ذاكرة حاضرة.
هذا لا يعني الدروز وحدهم، بل يعني أيضاً الموارنة، الذين لا تزال هزيمة 1860 تعسّ في وجدانهم. لقد قامت الحرب أيضاً على هذا الحدث الأصلي. الموارنة والدروز معاً يملكان، في الجبل، هذا المرجع التاريخي، هذه المطابقة المستمرّة على المرجع، وعلى المثال السابق، بحيث إن الحرب، هنا وهناك، هي أيضاً نوع من الثأر ومن تصفية الحساب، ومن الضغينة.
الغريب أنّ الأحداث الراهنة نفسها، تواكب هذه المقابلة، بل هي، على نحو ما، تستعيدها، وكأنّها تصدر عنها. لقد ربح الدروز حرب 1860 رغم أقلّيتهم بالنسبة للموارنة، وها هم الموارنة الذين يتأهّبون للثأر من هزيمتهم العجيبة آنذاك، هزيمة الكثرة أمام القلّة، والحاضرة أمام البادية، يلاقون الهزيمة نفسها مجدّداً، وهذه المرّة يهجرون الجبل نهائياً، ويُهزَمون بالكامل.
قارئٌ من الخارج لا بدّ ستخطر له هذه المقابلة، أي أنّ ثمّة عجيبة فيها، وأنّ ثمّة قدراً أعمى يلعب هنا. إنّ هزيمة الموارنة الثانية، رغم ما انتابها من ظروف، ليس أقلّها تخلّي "الإسرائيليين" عن الموارنة، وتدخّل السوريّين والفلسطينيين رغم الوجود "الإسرائيلي". لكن هذه العوامل، وأن تحدث برغم التحالف القوّاتي "الإسرائيلي"، أمر أقرب إلى العجيبة.
يقرّ مكرم رباح بدور المجنّدين الدروز "الإسرائيليّين"، في تخلّي "الإسرائيليين" عن الموارنة، الذين رافقوهم إلى الجبل. لكنّنا مع ذلك، لا نزال نستغرب هزيمة المسيحيّين أمام الدروز وخروجهم مكسورين من الجبل. لا نزال نستغرب، ونحن أثناء ذلك، قد نحابي الذاكرة، قد نحابي الأسطورة، قد نشعر أنّ في الأمر سراً، أو ما يُشبه السر، وأنّ العجيبة الأُولى قد استُعيدت حقّاً في العجيبة الثانية.
* شاعر وروائي من لبنان