"أيّها الطائر الصغير، لماذا تُغنّي؟
أغنّي لأنّني سعيد
أغنّي لأنّ الصباح يطلع كلّ يوم
وأنت، لِمَ لا تغنّي؟
أيّها الطائر الصغير، لماذا تُغنّي؟
أغنّي لأن لديّ حياة،
أغنّي لأنّني لستُ جريحاً
وأنت، لِمَ لا تُغنّي؟
أيّها الطائر الصغير، لماذا تُغنّي؟
أغنّي لأنّني أرى أشياء جميلة،
أغنّي لأنّ هناك شمساً
وأنتَ، لِمَ لا تُغنّي؟".
لا يُعرَف بالتحديد قائلُ القصيدة السابقة؛ فهي من ضمن مجموعة قصائد نُقلت شفوياً من جِيل إلى جيل، بلُغة الناهواتل القديمة، التي كانت تتحدّث بها قبائل الأزتيك، والتي سكنت المكسيك منذ القرن الثالث عشر، وأسَّست فيها إحدى أعظم الإمبراطوريات في العالَم. عظَمَةُ هذه الإمبراطورية لا تقتصر على التقدُّم في العُلوم وحسب، بل في الآداب والفنون أيضاً؛ إذ أوجدت تلك الشعوب نظاماً للكتابة طوّرت عبره آدابها، وخصوصاً الشعر.
وخلال الغزو الأوروبي لقارّة أميركا اللاتينية، دُمِّرت العديد من المخطوطات التي تُدوِّن العلوم والأدب، لكنّ بعضها نجا، وعُرِف من خلاله ما توصّلوا إليه من نظريات حول نشأة الكون، وكذلك ما أظهر اهتمامهم بالشعر.
كانت لغة الناهواتل (التي ما زال حوالي مليون نسمة في المكسيك يتحدّثون بها)، لغةً مُشتركة بين شعوب الأزتيك والتولتيكا. وصل الأزتيك إلى المكسيك، أو ما عُرفت بـ"تينوتشتيتلان" في القرن الثالث الميلادي، مُنحدِرِين من التولتيكا، الذين ازدهرت حضاراتهم في القرنين التاسع والحادي عشر ميلادية، وكانوا يعرفون الكتابة. شعوب التييوتيواكان والأولميكا كانوا يتحدّثونها أيضاً، وتركوا أقدم النقوش.
ما زال حوالي مليون نسمة في المكسيك يتحدّثون بها
طَوّرت هذه الثقافات نظام كتابة مُشتركا يحوي رموزاً صوتية وتنوّعاً حركياً وصوتياً، لم تُفكّ الكثير من شيفراته حتى اليوم، لكنّ معظم تراثه نُقل شفهياً. وبحسب مؤرّخين، فقد كان للكُتّاب مكانةٌ مختلفة في المجتمع، ويُدعَون بالـ"تلاميتيني"، وترجمتها "الذين يعرفون أموراً"، وتؤدّي معنى "الحُكماء والشعراء".
وبحسب الوثائق التي عُثر عليها، والمُتعلِّقة بالآداب، فقد افترض المؤرِّخون أنّ هناك نوعَين من الأدب، كانا مُنتشرَين في الحقبة ما قبل الكولونيالية، هما: "تلاتولي"؛ أي الكلمة أو الخطاب، وتتمثّل في القِصص النثرية التي تروي التاريخ أو تحوي علوماً معرفية، و"كويكاتل"؛ التي تعني القصائد والنشيد. وحول هذا الجنس الأدبي، أشار المؤرّخ والمترجم ميغيل ليون بورتيا إلى جمالياته وأهمّيته، لكونه يُشكّل مصدرَ معرفة وذاكرةَ الأجداد. واعتقدت تلك الشعوب أنّ الشعر يأتي بوحيٍ إلهي، وأنّ الشعراء فلاسفة وحكماء؛ فالشعر كان يستحضر الذكريات والحوار الداخلي والروحي.
ووفقاً لبورتيا، فقد اعترف المُستعمِر الإسباني برنال دياث ديل كاستيو، والمُبشِّر أندريه أولمو المتخصّص بلُغة الناهواتل، بوجود كتب ومخطوطات وُجدت في ثقافة ما قبل الاستعمار، لا سيما المؤرّخ برناردينو دي ساهوغون، الذي تعمّق في دراسة هذه اللغة، وأعدّ مجموعة تضمّ قصائد من هذه اللغة بعنوان "أناشيد مكسيكية"، ومجموعة أُخرى بعنوان "قصائد حبّ لسادة إسبانيا الجديدة"، مع الإشارة إلى أنّ بعض القصائد نُشِرت دون معرفة كاتبها، وأُخرى كان كاتبها مُعرَّفاً، وحرص الشاعر خلالها على الحفاظ على إيقاع مُعيّن لأن معظمها قصائد مُغنّاة.
تُرجِمت هذه النصوص من لغتها الأصلية إلى الإسبانية في القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت بدأت دراسة أدب الناهواتل. ويُجمِع الدارسون والباحثون فيه، على تميُّزه بخصائص مشتركة، أهمّها أنه شِعرٌ يصوِّر عُمق الحياة الإنسانية، دون أن ينشغل بالإجابة عن الأسئلة الكونية، ولا يعنيه الوصول لنتائج محدَّدة، لتبدو الحياة فيه لغزاً عصيّاً على الحلّ. كما تغيب الفردانية والهموم والاهتمامات الشخصية عن هذا اللون الشعري، لذلك قليلا ما نجد بينها قصائد حبّ، إذ لا يُعَدّ الحبّ، موضوعاً أساسياً من موضوعاته، رغم وجود القليل جدّاً من القصائد الإيروتيكية.
وبحسب دارسيه، فهو يُعالج مخاوف النخبة المتعلّقة بنهاية الزمن والموت والحرب والشعر والفنّ والنشيد، إضافةً لسرد بعض الأساطير الكونية والمُعتقدات الدينية والعلاقة الوثيقة مع الأرض والتواصُل مع الذات الإلهية، أو مع من سمّوه في شعرهم "مانح الحياة".
الشعر بحدّ ذاته كان موضوعاً للتأمّل بالنسبة للشعراء الناهواتل، ولهذا فقد كانت له أسماء مختلفة عندهم، مثل "وَرْدٌ ونشيد"، و"نشيد الربيع"، أمّا الشاعر فأطلقوا عليه تسمِيات من قبيل "الطائر الجميل"، و"الطائر الأحمر"، كما سمّوا القصائد "وروداً" و"أحجاراً كريمة"، و"ريش طائر الكويتزال".
هُنا قصيدة أُخرى بلغة الناهواتل مذكور فيها اسم أحد أشهر شعرائها:
هكذا قال توتشيويتسين
هكذا قال كويولشوينكي
سنخرُج فجأةً من الحُلم
فما حياتنا هنا إلّا حلم
لم نأت للعيش على الأرض
لا لا
ومثل أعشاب الربيع
تبرز كينونتُنا
يُولد قلبنا
تنبت زهورٌ من أجسادنا
بعضها تتفتّح شِعابُها
ثم تجفّ.
* صحافية ومترجمة أردنية فلسطينية مقيمة في نيكاراغوا