الناس العاديّون

11 اغسطس 2023
فلاح مصري في نهايات القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

في كتابه القيّم والممتع "كلّ رجال الباشا"، يعيد خالد فهمي كتابة تاريخ الإنسان المصري العادي، مُركّزاً على حقبة محمّد علي التي كُتبت في الغالب من وجهة نظر السلطة والمؤرّخين الموالين له منذ تأسيس دولة الباشا إلى زمن نشر هذا الكتاب. ولهذا، يختار المؤرّخ حياة جندي مصريّ واحد، كي يكتب تاريخ الاستبداد.

وقيمة الكتاب ليست في أنّه يكتب تاريخاً جديداً فقط، بل في أنه يعيد اكتشاف المهمَل والمهمَّش الذي كان الصانع الحقيقي لتاريخ زوّره التأريخ، مثل ما يُقدّم إعادة كتابة لتاريخ الحاكم، وهو هنا محمّد علي باشا، يتضمّن نقداً لسلطته، بحيث يمكننا أن نستنتج أنّ أيّ كتاب عن الإنسان العادي هو في الوقت نفسه سيكون كتاباً في نقد السلطة.

واللافت أنّه بقدر ما تتنوّع الحياة العادية، إذ يُقدّم الكتابُ صُوَراً لا متناهية عن غنى الحياة المصرية البسيطة، تتشابه وتتكرّر حياة السلطة، بحيث يبدو محمّد علي تكراراً لمن سبقه من الحكّام، ونمطاً مستعاداً في من تلاه من الحكّام المستبدّين أيضاً.

من خلال حياة جندي مصريّ واحد تُمكن كتابة تاريخ الاستبداد

قال خالد فهمي إنّ مهمّته الأساسية في كتابه أن "ألفت النظر إلى أهمية الفرد العادي... في صنع التاريخ"، إذ إنّنا لا نجد دراسة واحدة جادّةً مثلاً عن أثر مشروع مثل حفر قناة السويس على أولئك الفلّاحين التعساء الذين جُلبوا من شتّى أنحاء مصر لحفر تلك القناة. وبالمثل، فإنّ التأريخ القومي المصري، والعربي عامّةً، لم يهتمّ بتقديم دراسات جادّة تتناول التاريخ الاجتماعي للجيش الذي أسّسه محمّد علي، أي تاريخ عشرات الآلاف من المصريّين الذين سيقوا للخدمة في صفوفه، وتاريخ أُسرهم وأقاربهم وماذا حدث لهم.

واللافت في التاريخ العربي أنّ معظم المؤرّخين غضّوا النظر عن عبارات التحقير التي كان محمّد علي يقولها عن المصريّين، فهُم في رأيه ثلاثة أنواع: "أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وأناس يمكن أن يكونوا مخلصين ولكنّهم يفتقرون إلى التحفّظ، وأناس لا يختلفون عن الحيوانات". فقد سيطر عليهم عموماً نوعٌ من الولع بشخصية الحاكم الأبوي، وقُدّمت صورة شبه أسطورية عن الحاكم الذي استولى على ولاية مصر، وبدأ حكمه بمذبحة المماليك، وحاول أن "يوحّد" العرب عبر حروب التوسّع، وهي الصورة التي سوف تسيطر تقريباً على معظم المؤرّخين العرب. وقد تكون فكرة المستبدّ العادل التي دعا إليها عدد من الكتّاب العرب واحدة من منتجات ذلك الولع، يقابلها في الجانب الآخر عدم الإيمان بأهمّية الفرد المصري، والعربي العادي.

يُعيد خالد فهمي إلى "الناس العاديّين"، وإلى العبارة ذاتها التي تَلقى جدلاً حول مصداقيتها في التمثيل لمجموع الناس في المجتمعات البشرية، جزءاً بسيطاً من تاريخهم الذي لم يكتبه أحد، إذ إنّ معظم مدارس التاريخ العربي، وكذلك معظم المنشغلين بالأفكار وتاريخ الأفكار، حوّلتهم إلى أرقام وإحصائيات. لا نزال، حتى اليوم، نواجه مثل هذه المواقف، إذ قلّما تهتمّ الحكومات والهيئات الدولية، بل حتى تلك التي تدافع عن حقوق الإنسان، بوجودهم المؤثّر، إذ يهمّها حضورهم التابع، حين يتحوّلون إلى جنود ومنفّذين وشهداء أيضاً.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون