المولد النبوي.. جدلٌ فقهيّ لا ينتهي

08 أكتوبر 2022
من مظاهر الاحتفال بالمولد في القيروان، تونس، تشرين الأول/ أكتوبر 2021 (Getty)
+ الخط -

يتجدّد، طيلة شهر ربيع الأوّل من كلّ سنةٍ، الجدل حول مشروعيّة الاحتفال بالمولد النّبويّ بعد أن بات مَشغلاً فقهيًّا، يتواجه فيه مُؤيّدوه الذين يعدّونه من أشكال التعبير عن الحبّ للنبي والتعلّق به، ومُعارضوه الذين يشدّدون على أنّ هذا الاحتفال "بِدعة"، مُستدلّين بأنّ الجيل الأوّل من الصّحابة والسّلف الصالح لم يقوموا به. وبين القطبيْن، يسعى البعض الآخر إلى إيجاد حلٍّ وسطٍ يوفّقون فيه بين مثل هذه الأعمال ومقاصدها، بين ما هو شرعيّ قطعًا وبين ما يمكن أن يكونَه بطريق الفحوى والتضمّن. فهل من رابط ينظم العلاقة بين هذا النقاش الفقهيّ وحيويّة المجتمعات العربيّة ليلةَ المولد ونهارَه؟

في هذا الجدل، يعتمد دُعاة معاصرون وأتباعُهم، مثل الحبيب الجفريّ ومحمد سعيد رمضان البوطي وعلي جمعة، ومِن قَبلهم العَلوي المالكي وابن عاشور وغيرهما كثير، على كتيّبٍ شهير لجلال الدين السّيوطي (1445 - 1505) عنوانُه: "حُسن المقصد في عمل المولد"، ثمّ على فتوى لابن حجر العسقلاني (1372 - 1448)، وكلاهما يجيز الاحتفال بالمولد النبويّ وإظهار المَسَرّة فيه عبر الاجتماع لتلاوة السّيرة وإنشاد المدائح وسائر الأنشطة التي لا شكّ في حِلّيتها إذا ما أخِذت منفردةً. ويستخلص هؤلاء الدّعاة أنّ الاحتفال "بِدعة حسنة" و"مسلكٌ حسنٌ" حتّى وإن لم يقم به لا الصّحابة ولا سلفُ الأمة، لِما فيه من إجلال المؤمنين لنبيّهم والاعتناء بسيرته وشمائله.

في حين يتمسّك الفريق المقابل بمفهومٍ صارم للبدعة يشملون به اختلاق كلّ ما لم يَأت به النبيّ وصحابته، ويعتبرونه مذمومًا ولا بدّ من ردّه. وعن الرأيَيْن، تستشري الفتاوى والفيديوهات والمنشورات التي تبسّط هذا الجدل الفقهيّ وتنزع عنه طابعه الاستدلالي باعتباره اجتهادًا في واقعة حالٍ، لا نصَّ قطعيَّاً فيها. وتغزو هذه الجدالات وسائلَ التّواصل الاجتماعيّ التي تغدو مسرحًا تُستعاد فيه هذه الآراء الخِلافيّة وتشيع بسببها المعارك، كما لا تشيع عن أيّ موضوع آخر. 

المولد احتمالٌ منفتح على المعاني التي يودّ الإنسان إضفاءها

وأمّا على الصّعيد الاجتماعيّ، فتزدهي أغلب مدن العالم الإسلامي ليلة المولد ونهارَه، وتشيع مظاهر الاحتفال، وقد تتّخذ طابع "المهرجان الثقافيّ"، مثل ما هو الشأن في مدينة القيروان التونسية حاليّا، حيث يمتدّ مهرجانُها من غرّة تشرين الأول/ أكتوبر إلى التاسع منه لهذه السنة، كما في العديد من مُدن المغرب العربيّ ومصر وسورية وتركيا وغيرها. وتزدهر فنون الإنشاد والمديح النبويّ ضمن حفلات الغناء الروحيّ.

ولا نغفل هنا البعد الاقتصاديّ، رغم هامشيته، والذي يمكن أن يتجلّى في الحيويّة الإنتاجيّة التي تنبعث أيّامَ الاحتفال، وما تسفر عنه من عمليات تبادلٍ تجاريّ يتركّز حول المآكل والحلويات والملابس وأدوات الزّينة وغيرها، والتي تنشّط الدّورة الاقتصاديّة، كنشاطها خلال الأعياد الأخرى الدينيّة والوطنيّة، ممّا يمكن أن نطلق عليه: "اقتصاد الأعياد".  

وتتّخذ هذه الاحتفالات طابعًا أنثروبولوجيًّا عندما تصير طريقة للتكيّف بين أفراد العائلة والجماعة والبلدة، في ظل لقاءات احتفائيّة، تتخلّلها حفلات وأناشيد ومآدب تصطبغ بالسّمات الثقافيّة لكلّ مجموعة وكلّ دولة. وقد تنتقل هذه الممارسات إلى البلدان الغربيّة حيث تعيش جاليات إسلاميّة، فتصير بالنسبة إليها فرصة أخرى، كالأعياد وصلاة الجمعة، لتأكيد الذات وإثبات هويّة ثقافيّة متمايزة، فضلًا عن ترسيخ العلاقة بالذاكرة الجمعيّة والحسّ بالانتماء إلى الأمّة عبر هذه المظاهر الإدماجيّة. 

فغالبًا ما تزدهي المساجد والمُصلّيات في المُدن الأوروبيّة بإقامة حفلاتٍ خاصّة تُلقى فيها المحاضرات وتُقام المسابقات واللقاءات، مع التأكيد على صفات الرحمة والدعوة إلى الاندماج في الفضاء الغربي الذي صار مُلكًا رمزيّا مشتركًا بين المسلمين وغيرهم. ولذلك، تُستغلّ هذه المناسبة لإعادة ترتيب العلاقات بين الطوائف والدّيانات والجماعات المتباينة، فيسهل الحوار وتخفّ حدّة النزاعات القائمة بينها، ومن ذلك أنّ المسلمين في ديار الغرب يدعون مواطنيهم من الديانات الأخرى لحضور مثل هذه المواسم والاطّلاع على ما يجري خلالها من الأحداث، وقد يجدون فيها فرصةً للتعريف بالإسلام وبنبيّه. 

وعلى الصعيد الثقافي البحت، يصبح المولد "فعّاليّةً" تُستغلّ في تطوير الكفاءات الأدبيّة والموسيقيّة وتَزدهر فيها المدائح وتستعاد فيها الأناشيد الدينيّة التي تتغنّى بسيرة النبي، وهنا تنتعش الحفلات والفعّاليات الثقافيّة التي تنأى بنفسها عن الجدل الفقهي وتعتبر الاحتفال مجرّد نشاطٍ، شرعيّتُه تحصيلُ حاصلٍ بعيدًا عن تعقيدات الاستدلال وتشنّج الخلافات المذهبيّة، وبذلك تصبح الفاعليّة الثقافية بديلًا وتنبيلًا لخطاب الابتداع، فتؤدّي وظائفَ اجتماعيّة دقيقة مثل تقوية اللحمة والالتقاء حول روزٍ جامعٍ.

وهذا ما يؤكدّه اختيار الفضاءات التي تُقام فيها هذه الاحتفالات، فهي تتوزّع بين المساجد، مع أنّها تَفرض نوعًا من القيود الصارمة مثل عدم الاختلاط، الذي كان في هذا الجدل الفقهي سببًا من أسباب تحريم الاحتفال و"تبديعِه"، وبين المقارّ الخاصّة كالجمعيات والقاعات والمسارح التي تُكترى خصّيصًا لهذه المناسبة، وهو ما يتيح مشاركةً أكبر للنساء والعائلات والأطفال ويسمح لهم بهامش أكبر من الحركة والحريّة.

الاحتفال بالمولد مجالٌ يتحكم به السياسي بالدرجة الأولى

ولا ننسى هنا أنّ المولد "مجال" يتحكّم فيه السياسيّ بالدّرجة الأولى، فهو الذي يشرّعه أو يمنعه (اتّخاذ يوم المولد يوم عطلة رسميّة من عدَمِه)، وغالبًا ما يَشهد احتفالاته قادةُ البلدان، وهذا منذ العصور الوسطى، فيشرّعون بحضورهم له، كما قد يستغلونه لإظهار اهتمامهم بهذه المناسبة وأنّهم حُماة الدّين ورُعاتُه، في محاولة للتماهي مع فئات الشعب والإيهام باحترام تلك السلط السياسيّة لتعاليم الإسلام.

ونظرًا إلى هذه الكثافة التي باتت تطبع الاحتفاء بيوم المولد، صار البحث فيه موضوعًا اجتماعيًّا خصّصت له، في الإطار الجامعي الغربيّ، الكثير من الدراسات التي تناولت أبعاده الثلاثة (الفقه، الاجتماع والفنّ) وغيرها، ما يجعل منه مجالاً خصيبًا قد يضيء جوانب أخرى من التاريخ الاجتماعيّ للمسلمين في العصر الحديث، ببلدانهم وخارجَها. 

ومع ذلك يظلّ ظاهرةً متعدّدة الأبعاد، قد لا تحيط الأبحاث والتوصيفات إلّا بجوانب سطحيّة منها، لأنها، في العمق، استعادة للحظة تاريخيّة "انبجست منها شخصيّة من أعظم الشخصيات أثرًا في التاريخ البشري" ــ والشهادة لعالِم الفيزياء الأميركي ميكائل هارت (1978 و1992)، وقبله توماس كارليل (1959) ــ فغيّرت وجهته وأعطته معنًى متعاليًا لا تزال مئات الملايين من المسلمين متعلّقة به.

هو لحظة رمزيّة، يمكن للوَعي الفردي أن يسترجعها، بعيدًا عن تعقيدات النّظر الفقهي وتداعيات التوظيف السياسي والاجتماعي لها، وهذا حقٌّ تُستمد شرعيّته من العاطفة الجيّاشة التي تُعاش في حريّة مُطلقة، دون أوهامٍ آسرة ولا استغلال سلطويّ. لحظة المولد احتمالٌ منفتح على المضامين والمعاني التي يودّ الإنسان إضفاءها، وليس للخارج من سلطان على كيفيّة إحياء هذه اللحظة واستيحائها من ماضٍ يعود إلى أكثر من 1450 سنة، وكأنّها، لطلاوتها، مَرّت أمس. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون