الرَّفيق أرتورو غوريتش حذّر ذات زمن بعيد وصعب من "أنّ فنّ أعدائنا هو إضعاف معنويّات الناس وتكبيلهم بالحزن".
قال: "الأشخاص المكتئبون لا يفوزون. ولهذا السبب جئنا للقتال من أجل البلاد بسعادة". واستطرد: "لا يُمكن فعل أي شيء عظيم بالحزن"، وهنا، أُضيف من عندي: ولا حتى عند الشعراء.
لقد عشتُ طفولتي وحياتي مع الجيل الأوّل للنكبة. وأشهد أنني رأيتهم لا حزانى فحسب، وإنّما منكسرين وتتلبّسهم عقدة ترك الديار. كما أشهد أنّ حركة الفدائيّين الأُولى بدأت مُبكِّراً في قطاع غزّة، بعد أربع سنوات من النكبة. ثم اندلعت مرّة أُخرى فور حرب حزيران/ يونيو. وأنها، رغم هول العدوّ، بلغت تطوّرها الأعلى مع المقاومة في غزّة اليوم.
لم يتغيّر الهدف منذ عقود: التحرّر والعودة.
ولم يتغيّر الاسم العبري لهم منذ عقود: "مخرّبون". ولا تغيّر الاسم منذ عقود عند كامل قوى الناتو: "إرهابيّون".
المكتئبون لا يفوزون، ولهذا جئنا للقتال بسعادة من أجل البلاد
وهذه التسمية الأخيرة، عمرُها الآن أكثر من نصف ألف سنة: كلّ من يدافع عن أرضه وهويّته هو "إرهابي"، بالمنظور الإمبريالي. منذ أول "هِنديّ أحمر" إلى آخر مقاوم فلسطيني، والحبل على الجرّار.
كلّ شرفاء ونبلاء وإيثاريّي بشر التاريخ "إرهابيون".
هل هذا كلام؟ على مَن؟
أتذكّر الجانب الثوري من خوليو كورتاثر، الذي لم يصل إلى ترجماتنا. أتذكّر مئات الكبار سواه من القارّات الستّ وبلغات الكوكب الألوف. لقد كتبوا أماديح في هؤلاء "الإرهابيّين"، ولم يخشوا من تهمة المباشَرة في الأدب.
جيلي نشأ على ثقافة اليسار وشاخ. لهذا لم يكفَّ عن تقريظ أبطال الأرض، وملحها. ثم جاءت "أوسلو"، فمسحت صواب هذه الثقافة ونُبلها. لقد استبدلتها بثقافة سياسية، كانت في مراحلها الأُولى تخجل من الثناء على باذلي دمهم من أجل غيرهم. وفيما بعد وصولاً إلى اليوم، صارت ثقافة المواجهة العارية، من أكبر الموبقات عندها، بل هي من الكبائر.
فلسطين الثقافية رفعت راية "النضال السلمي"، شاكية من الكفاح المسلّح. حتى غدا الأخير أشبه بالعار الوطني. ومثقّفو "أوسلو" باختصار رفعوا راية الاستسلام.
هل هذا كلام؟
آمل، وليس لدي كبير أمل فيهم، أن تتغيّر هذه الثقافة الوضيعة التي لا تليق بإرثنا، بعد السابع العظيم، عند من يعنيهم الأمر من سياسيّين ومثقّفين يدورون في نفس الفلك أو الدرك.
والله عيب.
والله عيب أن نخجل من كتابة الأدب المقاوم ورقابنا تحت السكين.
عيب أن نقلّد الأدب الغربي وفردانيّته ذات القواقع.
عيب أن نسفح الحبر، على ما هو نوافل وصغائر: عيب ألّا نركّز على الأولويات.
عيب أن تكون الثقافة الغربية، الفنّ الغربي، الآداب هناك، مراجع لنا.
عيب، لأن النتيجة هي اغتراب واستلاب وانسحاب.
النتيجة هي هزيمة الروح، وهذه أقرب الأبواب لهزيمة الجسد. وماذا بعد؟ ليس إلّا الخيانة والقصف، والتفكيك... سيأتي قريباً.
لنعُد إلى أوّل السطر، ونقرأ الرفيق.
فقط أعطتنا الراتب المسموم ومناصب الغفلة.
ثقافة "أوسلو" لم تعطنا عنباً، ولا حتى حُصرماً.
فلنكفّ، كمثقّفين فلسطينيّين، إذاً، عن صناعة النبيذ من الكرمة الهزيلة.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا