في روايته "ألف عام ويوم واحد" التي رفضت دُور نشر فرنسية إصدارها بالنظر إلى أحداثها المُستنِدة إلى "مجزرة صبرا وشاتيلا" عام 1982، ينسج إدمون عمران المليح شخصية البطل المغربي اليهوديّ "نسيم مركبة"، إذ تظلّ اللغة العربية الأقرب له لدى تعبيره عن الألم، أو في استحضاره لجدّه وطفولته في مدينة الصويرة. ويتكرّس هذا الألم الذي لا يُمكن التعامل معه، بمنأى عن فكرة استئصال أقلّية - بالأحرى مكوّن من مكونات المجتمع - من موطنها لتنتقل إلى دولة مخترَعة، وكذلك في سعي "نسيم مركبة" الدائم إلى التخلّص من يهوديّته المشرقية العربية، حتى يمكن تقبّله في المجتمع الفرنسي الذي يحتكم إلى صورة نمطية رسّخها خطابٌ مُعادٍ للسامية.
تلك واحدة من الأفكار والرؤى المعمّقة التي قدّمها الروائي والكاتب المغربي اليهودي (1917 - 2010)، سواء في أعماله السردية أو دراساته النقدية أو مقالاته الصحافية، والتي يتتبّعها الباحث والناقد المغربي يحيى بن الوليد في كتابه "الكتابة وتعارُضات الهُويّة: في مرجعيّة إدمون عمران المْليح"، الذي صدرت حديثاً طبعتُه الثالثة عن "العائدون للنشر" في عمّان.
ظلّ عصيّاً على الاختراق الصهيوني مُلتزماً هويته المغربية
يلفت المؤلّف، في تقديمه للكتاب، إلى ثوابت متعيّنة تنتظم كتابات المليح في مجالاتها المتنوّعة؛ السرد والرسم والفنّ التشكيلي ومدرسة فرانكفورت والفلسفة الحديثة ومسألة فلسطين واليهودية المعاصرة، مُبيّناً أنها بمثابة جذر ضابط لهذه المجالات في تنوّعها الخلّاق ووحدتها المتماسكة.
هذه الكتابة، بحسب بن الوليد، "أبعد ما تكون عن التمرين، أو التمارين اللغوية الناجزة، طالما أنها تتموضع في أفق المواجهة وليس في نفق المخايلة؛ وذلك كلّه في المنظور الذي يُفضي بهذه المواجهة إلى أن تكتسي أُولى دلالاتها العميقة من تصدّيها، وعلى أساس من هدأة العقل، لمشكلة أو بالأحرى مشكلات الهوية المتوالدة والمتناسلة. وبالنظر إلى ما راح يلوي بالعالم، ويُعنّف بأنساقه الفكرية وتمثُّلاته الثقافية، لا يبدو غريباً أن نتحدّث عن هوية أو هويات قاتلة".
ويخصَّص الفصل الأول للمواجهة مع الهويات القاتلة، ضمن مستويات عدّة منها: تشديد المليح على الوسط اليهودي العريق الذي نشأ داخله، وظلّ بمنأى عن أي نوع من التأثير أو الاختراق الصهيوني، وانخراطه المبكّر في "الحزب الشيوعي المغربي"، الذي أفاده في قراءاته، لكنها تجربة، كما يصفها، لم تسلم من "فقر فكري شامل". ورغم قطيعته مع الحزب، سيتعرّض للاعتقال عام 1965، حيث سيخرج من السجن إلى منفاه الاختياري في باريس، وهناك سيتحقّق عبر نصوصه ما بعد الحداثوية التي شكّلت علامة بارزة في الإنتاج الأدبي المغربي الحديث، مواجهاً متاعب النشر في فرنسا نتيجة الاختراق الصهيوني، وممثلاً للمثقف الذي ظلّ مُصرّاً على الحفاظ على هويته المتفتّحة، وصولاً إلى عودته إلى وطنه المغرب عام 1999، السنة التي "كانت تحوّلاً شاملاً في حياته، بل كانت بمثابة تدشين لحياة جديدة وبمعنى مُحدّد"، بحسب الكتاب.
الاستعمار هو التعبير، بالعُنف والرُّعب، عن الهيمنة
بعد العودة، سيجد صاحب رواية "إيلان أو ليل الحكي" نفسَه في مغرب بعيد كلّ البُعد عن "المغرب الأصيل"، في هشاشة ثقافته واستلابه لمظاهر الاستهلاك، وبروز مشكلة التطرّف التي رفض بدوره المنطق الإمبريالي في التعامل معها، ولتكون الهوية المتحوّلة (المُنفتحة) لا الهوية الكبسولية (المُنغلقة)، في كلّ هذه المراحل، أساس الأطروحة الناظمة لكتاباته.
ويبقى الجرح الأبرز في هذا السياق، وفق الكتاب، الهجرة الجماعية أو التهجير الجماعي للمغاربة اليهود إلى "أرض لا يعرفون عنها أيّ شيء من خارج الدعاية الصهيونية، تاركين في الوقت ذاته من خلفهم أراضيهم وتقاليدهم ومقابرهم وأولياءهم... مع أنه لم يكن هناك أي خطر مباشر، سواء في الحاضر أو في المستقبل، يهدّد كيانهم"، لتخلق "الهجرة" التي كانت مُدبّرة وممنهجة "فراغاً مخيفاً"، حيث أخذت توحي أن الوجود اليهودي بالمغرب كان عابراً أو مجرّد صدفة.
كتابة تتموضع في أُفق المواجهة مع الهويات المنغلقة
في الفصل الثاني "الكتابة الأليغوريّة: فجر البدايات وخيبة الفلسفة الأوروبيّة"، تحضر العلاقة بين إدمون عمران المليح وزوجته ماري سيسيل صاحبة "الكتابة الأليغوريّة"، بدءاً من التركيز على موضوع الكتابة ذاتها وانتهاء بطريقة الكتابة المفتوحة التي تميّزُهما معاً في أثناء تعاطيهما مع مواضيع الفلسفة والفنّ والجمال، كما أنّها لا تبدو مأخوذة إلى ما يُمكن نعته بـ"سُعار المفاهيم وكثرة الاقتباسات"، غير أنّ مفاهيمهما تحضر بشكلٍ مُنجدل أو مندغم في التحليل/ الكتابة.
ويُضيء بن الوليد في الفصل الثالث "الأدب النقدي والبربرية القاتلة"، تصوّرات مدرسة فرانكفورت لموضوع الأدب، موضّحاً أنّ إدمون عمران المليح، في "خرائطيته الكتابية"، يستند إلى مرجعية فلسفية تأتي في مقدّمها تصوّرات مدرسة فرانكفورت التي تصدّت، سواء في مرحلة التأسيس الأولى، أو المرحلة الأميركية التي تلتها، أو مرحلة العودة إلى ألمانيا، لجميع أشكال البربرية والتشييء والتسلُّطية والتوتاليتارية؛ وهي صلب ما واجهه صاحب "المقهى الأزرق: زريريق" في مجمل كتاباته.
وفي مفتَتح الكتاب، يقتبس مقولة المليح: "الواضح أنّ الاستعمار هو التعبير، بالعُنف والرُّعب، عن هيمنة حضارة على أُخرى، هي مؤقّتاً، في حالة أدنى منها. وفي هذا التحدّي لعبت أسلحة الثقافة، في كلّ تنوّعها دوراً حاسماً أكبر من الأسلحة الكلاسيكية بكثير. ونرى اليوم جيّداً، في سياق مختلف تماماً، مدى استمرار هذه الهيمنة في الإعلان عن نفسها على حسابنا بعُنف، لكن هذه المرّة بأسلحة أُخرى غير أسلحة الغزو والاستعمار".