من الصعب أن نقبل رأي الناقد الإنكليزي أرنولد كيتل، الذي يقول في كتابه "مدخل إلى الرواية الإنكليزية" إنه كان بوسع إنسان آخر، غير هارييت بيتشر ستو، صاحبة رواية "كوخ العمّ توم"، أن يكتب شيئاً آخر له التأثير نفسه الذي تمتلكه هذه الرواية، بصورة عامّة. والسبب في رأيه أن إسهامها منصبٌّ على موضوع التحرّر الإنساني أكثر ممّا هو مشغول بالرواية وفنّ الرواية. دون أن يعني هذا أنه يقلّل من قيمة الرواية، أو يهدر تاريخها. لا. بل هو يقول إنها فعلُ شجاعة، وإنها قد لفتت انتباه القرّاء، في حينها، إلى وقائع تجاهلوها سابقاً، وكانت وخّازة لضمائر الناس، ودافعة إلى الفعل، حيث الفعل ضروري وعادل.
على أن هذا الرأي يكاد يقسم روايات العالم كلّه بين اتجاهين، كما يضع تاريخ القراءة، أو القرّاء عموماً، في منطقة الاختيار بين روايتين: الأولى هي رواية الرسالة، والثانية هي رواية الفن الروائي. لا يعني هذا أن رواية الرسالة هابطةٌ فنياً، فـ"كوخ العم توم"، أو "الأمّ" أو "الدون الهادئ" ليست كذلك، ولكنّ الروايات التي تُسخِّر الفنّ لتحقيق الهدف، أو التي يكون شاغلها وهمّها هو وضع القضية أو الموضوع في بؤرة العمل الرئيسية، قد يفضي بها ذلك إلى أن تكون مؤقّتة وعابرة، يزول أثرها بزوال المسبِّب الذي أفضى إلى هذه الكتابة.
لكنّ روايةَ الفنّ ليست فارغة، أو غير مشغولة بالهموم الإنسانية. ولم يحدث أن كان ثمة رواية، في التاريخ الروائي، دون موضوع إنساني ما. فرواية مثل "الصخب والعنف" لا يمكن أن توضَع في أي سياق عامّ تحرّري، ولا في قضية وطنية أو قومية. ولكنّها في الوقت نفسه تروي قصصاً عن أفراد شديدي الخصوصية، وهم قد لا يشبهوننا في شيء كي ننشغل أو نهتمّ بمصائرهم، ومع ذلك فإن مثل تلك القصص، التي تُروى عنهم، تضع وعي القارئ، وتجربته، وطريقة تذوقّه للرواية عامّةً، في عالم جديد محمَّل بالدلالات.
لم يحدث أن كان ثمة رواية مهمة دون أن يكون موضوعها إنسانياً
وكلا الخطّين في الرواية مستقلٌّ وشديد الخصوصية، وهو نتاج مخيّلة فردية، لا حصيلة جهد الجماعة، ولا يمكن لأي مخيّلة في العالم كلّه أن تحلّ محلّ مخيلةٍ أخرى. والرواية التي لم تُكتب بعد، لن تُكتب أبداً، إذا لم تذهب إلى المخيّلة التي سوف تبتكرها. والمشكلة في مثل هذا التحليل أنه يُهمل الذات الكاتبة، من جهة، بينما يُعطي البيئة والظروف أولويةً تكاد تمحو خصوصية الفرد. عِلماً أن الذات المبدعة لا تزال، إلى اليوم، موضوعاً للخلاف والاجتهاد في التفسير من قِبَل النقّاد والفلاسفة.
كما أنه يؤكّد أن لا معرفة لديه بالكيفية التي ينتج فيها العمل الفنّي: رواية أو شعر أو غيرهما. فالرواية لا تُكتب دفعة واحدة بالطبع، وهي ناتجُ تفكير وعمل قد يستمرّ سنوات، كما أنها ناتج العلاقة بين هذا الكاتب ذاته، والعالَم، ولهذا فإن العالم الروائي لكلّ روائي يختلف عن عالم روائيّ آخر، حتى لو كان الروائيان يعيشان في البيئة ذاتها، وضمن الظروف التاريخية نفسها.
* روائي من سورية