لا نجد في ثقافة أُخرى هذا التعارض، أو التباين، بين الوطني والقومي اللذين نجدهما في الثقافة العربية. كانت الدعوة الأولى التي برزت مع الاتصال بالغرب وتشرُّب الدعوة القومية من هناك، في المحيط العثماني بدءاً من الأناضول، هي الدعوة القومية. أقامت الدعوة العربية في هذا الوقت فارقاً بين العموم الإسلامي والخصوصية العربية. كانت، حتى ذلك الحين دعوة وطنية أيضاً. لكن، وبالتجاور معها، بدأت من هنا وهناك تنطلق دعوات تقتصر على واحدة من المناطق داخل المجموعة العربية، أو على قطر واحد منها.
هكذا نشأت دعوة سورية تشمل ما كان يُعرف بسورية الكبرى التي تشمل لبنان وسورية وفلسطين والأردن. قام "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، الذي أسّسه أنطون سعادة، على هذه الدعوة. في هذا الوقت، قامت داخل الإطار العربي دعوات جزئية شملت لبنان الذي انطلقت منه دعوة فينيقية أو لبنانية بحتة، كما انطلقت دعوة مماثلة من العراق. أمّا خارج هذا النطاق فقد قامت دعوة مصرية، وأمازيغية من المغرب، فيما بعد. هذه الدعوات كانت تعود إلى حقب تاريخية تسبق الإسلام وتبني على ماضٍ قبل عربي. هكذا انبنت على خيال تاريخي أقلّ مشروعية وأكثر ضبابية من الواقع الذي تكوّن مع انتشار الإسلام وسيادة اللغة العربية، والذي كان، على نحو ما، حاضر هذه البلدان وتاريخها الراهن.
كانت الدعوة القومية مع ذلك تبنى، على نحو واعٍ أو لا واعٍ، على الإسلام وعلى اللغة العربية. ليس هناك عدا هذين رابط آخر يمكن البناء عليه. قرون من التباعد والانكفاء على الكيانات الخاصة والتشكيلات الاجتماعية والعرقية المختلفة والمسارات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية القائمة على تشكيلات متفاوتة ومتباينة، كل ذلك لا يردف التشابه الديني والثقافي بعناصر جمع أخرى.
القضية الواحدة والحماسة الشعبية كانتا كافيتَين بالطبع
كانت العروبة يومذاك بنت خيال سياسي وثقافي ليست له مقوّمات أُخرى في التركيبات الاجتماعية التي تتسمّى بها. كانت هكذا تُضاف إلى الفخر القبلي وتقوم مثله على الحماسة وعلى الاعتداد شبه العرقي. ربما نجد معيار ذلك في الشعر القومي الذي وحده، وبدون رافد سياسي أو اجتماعي، حمل هذه الرؤية الما قبل التاريخية، ووحده كان مغنيها ومنشدها. بنَت العروبة هكذا على لا تاريخية تسود المجتمعات التي تبعثرت من انتهاء الإمبراطورية العثمانية. هكذا صارت العروبة، على هذا النحو، عقيدة شاملة، لكن شبه دينية، لمجتمعات لا يزال الدين مصدرها الأول. بدا لأول وهلة أنها جامع حقيقي. بدا في المرحلة الناصرية أنها حقيقة قائمة، وأن الأمة العربية موجودة وماثلة تحت منبر عبد الناصر وحول خطبه.
لم تكن الوحدة المصرية السورية، يوم قامت، بحاجة الى إثبات. كانت الأمّة العربية يومذاك، بفضل هذه الأغنية وتلك الحماسة، موجودة وإن لم تكن لها أطر سياسية ولم تندرج في دولة. كانت الوحدة المصرية ـ السورية التي انهارت، وحرب 1967 التي انتهت بهزيمة، منتظرتَين وأكيدتَين. المسألة الفلسطينية كانت وراء هذا العقل التوحيدي وعلّته. لم نسأل يومذاك عن مقوّمات أُخرى. القضية الواحدة والحماسة الشعبية كانتا كافيتَين بالطبع.
لا نعرف إذا كان الانفصال السوري عن دولة الوحدة، وهزيمة 1967، سبباً مباشراً في تراجع العروبة. لكن الأكيد أن هذين الحدثين كشفا، بشكل محزن ومخزٍ، افتقار العروبة إلى مقومات فعلية. لم يكن مفاجئاً أن تبدأ، بعد ذلك، ارتدادات في كل مكان إلى الأوضاع الخاصة بكل قُطر، بل بدأ ما يمكن أن نعتبره صناعة الأقطار. الدول التي بدت، في الأول، أطراً كرتونية ظهر أن الظروف تعمل على إقرارها وصناعة كيانات فعلية منها. مع ذلك كان نقص مقومات الدولة فيها واضحاً وسبباً لنكسات تسببت عن هذا النقص.
لا بد، بالدرجة الأولى، من بناء مجتمعات وبناء شعوب وبالتالي بناء دول. لقد بدأ الحاضر، بدأ التاريخ الراهن، يعمل في هذا الاتجاه. بالطبع لقي ذلك مقاومة من المجتمعات شبه القبلية، لكن هذه المقاومة ما كانت لتعيد إلى الخيال العروبي. عاد الإسلام ليحل محل العروبة، لكن القُطرية كانت أيضاً تنشأ ومعها عصبيات قُطرية يمكن أن ندعوها، مؤقّتاً، وطنيات. كان الربيع العربي ميدان هذه الوطنيات التي انتكست بالطبع، لكن هذا لم يكن لصالح الرؤية العروبية. المنطقة العربية تدخل هكذا، شيئاً فشيئاً، في نوع من القُطرية أو الوطنيات التي تعاني بالطبع، لكن هذه المرّة على مستوى أكثر واقعية وراهنية، من نقص مجتمعاتها وتاريخها. هل كان سبق القومية للوطنيات لا تاريخياً، فالوطنيات الناشئة تعاني، بدورها، من لا تاريخية مماثلة.
هل يعني ذلك أن تاريخنا يتّبع مساراً انحدارياً، أم أنّ الأمر قد يعني أن التسلسل هذه المرّة أكثر سلامة وصوابية؟