الشمس الصيفية بدأت تتعب، وعندما تتعب الشمس الصيفية تبدأ تحمرّ أكثر مثل برتقالة خجولة. البرتقالة الشهية هي الآن فوق المئذنة التي فوق الإجاصة العملاقة، والتي بدورها تطل على طريق حلزوني سكنته الحصى وأتعبته أقدام الفلاحين. أسفل الطريق جرف كبير يظل الوادي الذي يستحم الآن في بركته، التي تركتها "حملات" الشتاء، أطفال القرية الأخرى.
في المقابل نعوم نحن أطفال القرية التي لا قرية مثلها، نختار أي بركة في الوادي كله، ولهم هم بركة أو بركتين فحسب، بحكم الكم تغوّلت قريتنا، لكن أطفال الضفة الأخرى، مثل آباءهم، محاربون أشداء ومدافعون شرسون عن هويتهم ومجالهم.
تحت الأثل الذي يزرع مقلوبا ليتكاثف نعوم ونعوم حتى نسكر من الجوع والعطش والتعب.
تلك البرتقالة ذات العيون الساحرة لا ترحم إلا بعد العصر، لكنه آنذاك يخرج أطفال الكائنات السفلية من مخابئهم ليحلّوا محلّنا في اللعب بالماء، هم لا يسبحون مثل الآدميين، إنما يلهون بالطين والرمل؛ وأكل أوراق الشجر؛ والعبث بالفواكه، وتعذيب الكلاب والقطط. علينا ألا نزعجهم وإلا انتقموا بتثبيت فك أحدنا؛ أو جعله يكره اللعب مع الأتراب؛ أو القتل حتى، الكائنات السفلية شريرة وبذلك نهديها الغطس الأخير.
الأطفال عندما يعومون إنما يريدون نسيان نصوص القناص الأعور؛ والبدوية التي أزعجها المصباح اليدوي، وأحمد والعفريت. وجلهم يهرب من الصلصال واللوح الخشبي وضوضاء المسيد. وحدهم الأتقياء والنبغاء والبلداء يبقون تحت أرجل وعصى الفقيه. نحاذي الآن الساقية الكبرى كأننا مشفقون على مغادرة الماء. نحكي الخرافات ونسرق الإجاص والبرقوق في البساتين.
القرية الأخرى نسجت حولها الحكايات، هي لا تشبه قريتنا في شيء، تطمح لتصبح شبه مدينة عتيقة وقريتنا يشدّها البدو إلى الرعي والفلاة. غريب أمر هذا الجوار. نكاد لا نتشابه في شيء. وحتى في قريتي لا تتشابه القصور رغم المسافة القصيرة التي تفصل بينها، مسافة صياح يمكن أن يسمع من أجل النجدة. رغم ذلك فالهويات فسيفساء عجيبة. أحيانا لا نتواصل حتى، كل في طريقه ويكفي السلام، ويمكن أن تقضي العمر كله دون زيارة القصر الجار، وحدها المدرسة بدأت تعجن الخصوصيات وتصنع نوعا من الألفة التي لم ينجح المسجد في خلقها سابقا.
القرية الأخرى قصر واحد، لكن في الدفاع والتماسك بألف قصر، ونحن بكف اليد وكل واحد في واد.
في تلك القرية الأخرى سقط رأسي ذات شتاء، وهذا يكفي كي أتحفظ عندما يهاجم أهلي أهلها.
ذهبت الشمس الآن لتنام في حضن غولة بأيدي عظمية وبأسلحة على شكل كرات من ريح أو مطر أو حديد ونحاس. ولبست المزرعة رداء حريريا تظلها غلالة وردية تؤجج العواطف وتنسي كل السيئات.
عند مفترق الطرق والسواقي نتشتت تلقائيا كسرب سنونو مزقته العاصفة، بعضنا يتيه في المزرعة يبحث عن روحه التوأم، والآخر نحو البيادر حيث المباريات الكروية التي لا تنتهي، والبعض الآخر يضيع في الظلام لا ندري ماذا يفعل ولا أين حتى نلتقي غدا تحت التينة الكبرى لنعود إلى العوم. الفضيلة الكبرى في هذا العالم الضائع في كرة الأرض أن لا أحد ينتبه للآخر، حتى بعض سلوك خرق العادة لا ينتبه إليه، المتعاطي للحشيش؛ أو المخمور؛ أو صياد الأرامل، إن لم يصل أمر سلوكهم إلى عنف ما فهم بشر مثلنا نسلم عليهم ونشاركهم الأفراح والأتراح ولو في هامش الهامش.
عاشت القريتان في سعادة وحبور، حتى حل وباء خطير تفشّى وبسرعة كالنار في الهشيم، يفتك بالروابط الاجتماعية والتماسك خاصة. ما زلت أذكر اليوم الذي استفحل فيه الأمر، يوم دخولي أنا وأمي لمعزل أسود لنرمي غلافا بريديا أصفر في صندوق خشبي لنؤازر عمك خوفا من عودة الرحل قالت، وهي مستاءة من الأمر، أمها من الرحل، وزوجها الورع لا يكل من القول بسواسية الناس.
كأن أول أعراض الوباء عدم الفهم، والشعور بعدم امتلاك القرويين لمصيرهم، وأن هناك أشخاص وأحزاب تحيك المؤامرات والحبائل من وراء ستار، ثم استفحل إلى العداء المعلن بين الناس، وحتى بين الرجل وزوجته أحيانا، مرورا بانعدام الثقة وبتوجس الكل من الكل.
منذ الانتخابات والأحزاب كانت أمي توصيني أن أقرأ المعوذتين وآية الكرسي عندما أمر بنساء الحي الآخر من حارتنا.
ولولا المدرسة ثانية لخرّ كل شيء، كنا نحن التلاميذ ممنعين ضد الوباء، نرى الكبار يتخاصمون ولا نبالي. وتمر العطلة بين البيادر والمزرعة والوادي.
لكن الوباء ما زال يفعل فعلته، وتمكن من الناس واستوطن بالتلوّن بالألوان المحلية عرقا في البداية ثم جوارا لينتقل في الأخير إلى الدين.
عندما أزور القرية الآن أكاد لا أعرف الناس وحال الناس.
* كاتب من المغرب