ما إن يبدأ أحدٌ بالكتابة حتى يتحرّك في داخلهِ هاجسٌ ما، ويتحرّر من أحد المخاوف مع كتابة الكلمة الأولى، فالجملة الأولى. ثمّ تنطلق عربة الكتابة في مسارٍ من الحرّية يُلازم الشخصيات والوقائع. وعلى التوازي مع عملية الكتابة، تنمو في الأفق عملية أخرى، وهي القراءة التي تُحرّر بدورها القارئَ من مخاوف، وتحقّق له رغبات. وقد منعت الحكايةُ شهريار عن قتل شهرزاد. السرد أفقدَهُ الرغبة بالقتل، كما أعادت القراءة ترويضَه عبر غواية السرد بعدما وقع في حبائلها.
وجود هاتين العمليّتَيْن الذهنيّتَيْن ـ الكتابة والقراءة ـ وجودٌ طباقيّ. يضع الكتابة أمام احتمال أنّها ليست عملية مستقلّة، خصوصاً إذا ما فكّر الكاتب في القارئ الذي يتوجّه نصّه إليه. ما يضع أصالة الكاتب على المحكّ، ذلك لأنّ القارئ يتوزّع على طيفٍ متفاوت؛ قد يكون القارئ رقيباً تُبنى العلاقة معهُ إمّا بالتَوْرية أو الترميز، وقبل ذلك بالشجاعة والذكاء. كما لا يعجزُ الفنّ عن إيجاد الحلول مع الرقيب، من غير أن يهادِن أو يدخل حلقات تزييف الوعي أو تزوير التاريخ.
لكنّ التعاطي مع القارئ الرقيب، بصفتهِ موظّفاً حكوميّاً، لم يعد يشغل الكتّاب سوى في بلدان قليلة في العالم. الرقيب هذه الأيّام قد يكون جهةً مُمَوّلَة، وهذا رقيبٌ أكثر صعوبة من الرقيب الموظّف، إذا ما دخل في اعتبارات الكاتب، مع استثناء أن يكون للكاتب والمُمَوّل المقولاتِ ذاتَها، وهذا صعب التحقّق. لكنّ قارئاً من نوعٍ آخر، خفيّاً ومتعذّراً إرضاؤهُ أو التحايل عليهِ ـ ضمن اعتبارات الفنّ ـ قد يشغل الكاتب الذي اعتبر نفسه ناجياً من رقيب السلطة الذي يريد أن يفرض سيطرته على الوعي، ورقيب المال الذي يريد أن يفرض سيطرته على الثقافة. وهو القارئ الذي يُطربه السائد، وهذا القارئ لربما يكون أشدّ فتْكاً من أي رقيب آخر. ذلك لأنّه تلقائيٌّ في أحكامهِ، تلقائيّ في مزاجهِ. هذا حَسنٌ، لولا أنّ تلقائيّته تلك زائفةٌ، صنعها رقيب السلطة والمال. وفي العالم العربي، بصورة خاصّة، يوجد الرقيب الآخر، الذي يدخل إرضاؤه في اعتبارات الترجمة إلى لغات أخرى.
أصبحنا نجد مَن يناصب الحريّةَ العداء ومَن يَطربُ للمنع
عندما يبدأ أحدٌ بالكتابة، يعتقد أنّه قادرٌ على كتابة كلّ ما يحلو له كتابته. ثمّ تبدأ صراعات النجاح ـ الذي قد يقتضي إرضاء القارئ السائد ـ بالعمل داخله. الكاتب في سعيٍ دائم صَوب المتلقّي، حتّى لو ادّعى التعالي على ذلك. فالكتابة من غير قراءة تبقى فعلاً مُهدّداً بوجودهِ. والحديث هنا عن كتابة تخضع بصورة من الصور إلى قراءةٍ مغايرة تَنتجُ عنها أو تتفاعلُ إزاءها أنواعٌ مختلفة من العلاقات بين النص والكاتب، بين النص والقارئ، بين الكاتب والقارئ. وضمن جملة العلاقات المعقّدة المتشابكة هذهِ، يبقى المعيار الأعلى هو شجاعة الكاتب على تجاهل القارئ. إذاً، هل الكتابة فعل قائم بذاتهِ؟ الجواب ملتبس؛ نعم، ولا. ذلك لأنّنا لا نعيش في عالمٍ مثاليّ، بل في عالم يفعل ما بوسعهِ من أجل تخريب صفاء الفنّ، لاعتبارات كثيرة، تبدأ من غياب الحريّات الفرديّة والعامّة في أوطان مهدّدة، أو جعل البشر مَحضَ مستهلكين. وصارت عربة الكتابة تفترق عن الحرّية، حدّاً أصبحنا نجد معه، في بلدانٍ معيّنة، مَن يناصب الحريّة العداء، ومَن يطربُ للمنع.
هكذا، ليس من قبيل الصدفة أنّ الرداءة سمةٌ رائجة، ومطلوبة، وقارئها هو القارئ السائد. وفي العالم العربي نجد الجميع، باستثناءات قليلة، يشكو من الرداءة: الكاتب والناشر والقارئ، محكّمو الجوائز والفائزون بها (الناقد غائب تقريباً). ليبقى على الكاتب ـ ضِمْنَ تشابك العلاقات المعقّد ـ أن يقول كلمته. وهذا أمرٌ ليس يسيراً، لكنّه ليس من المستحيلات أيضاً.
* كاتب من سورية