الفنّ ليس بريئاً

23 يونيو 2022
مقطع من عمل لـ كاتنجري كريشنا حبّار (الهند)
+ الخط -

إذا كان الفنّ يبحث عن الفردانيّة، فهو في جانب منه يستند إلى ما هو سائد في موضوعهِ، كي يؤسّس لفردانيّةٍ من نوعٍ ما. وقد ساهمتِ الفنون على اختلافها في تنميط جموعٍ من البشر، كاليهوديّ البخيل مثلاً، أو صورة العربيّ في السينما الأميركيّة. 

لا أخالُ أنّ عرباً كثيرين يتّفقون مع الصورة التي صدّرتها عنهم سينما هوليوود. كما لا أخال أنّ السوريّين الذين يشهدون نقاشاً دائماً، صار طريفاً لكثرة تكراره، يتّفقون مع ما تصدّره الدراما السوريّة عن دمشق بصورة خاصّة. ولو أنّ الأفلام السوريّة التي نجحت جماهيريّاً لم يتوقّف مُخرجها عن تنميط مجموعة من البشر باقتصار تجاربهم الإنسانيّة المختلفة على لهجتم. كما تمتلئ الدراما السوريّة بأعمال تدفع إلى تنميط رجل الأمن ورجل الأعمال وما إلى ذلك. وعلى هذا النحو، الصورة التي تُصدَّر لنا عن الآخر هي التي تشكّله في مخيّلتنا، وهي ليست حقيقته بالضرورة، وإنّما ما استطاع الفنّان إيصالَه أو ما أراد إيصاله. لكن في بلدٍ مثل سورية، حيثُ يغيب العمل السياسي بصورة مُبرَمة؛ من البداهة أن يبحث أحدنا عن ظلال السياسة في أبسط الظواهر، فكيف بالفنّ وهو أحد أعقد الظواهر التي ينتجها العقل. بالتالي، لا أخالُ أنّ الفنّ الذي يدفع إلى التنميط في السينما والدراما السوريّة، فنّ بريء.

في غياب الحرّية يركن العقل الكَسول إلى ما هو سائد

على العكس، لا يتوقّف هذا النوع عن خدمة الآلية التي تدفع إلى استمرار حال البلد بالشكل الذي هو عليه، كما لا ننسى أنّ السينما والدراما صناعتان مضبوطتان بالكامل بالدور المطلوب منهما، في تنميط البشر واستخدامهم، وزيادة الفُرقَة بينهم. وهذا ليس اتهاماً بالضرورة، ذلك لأنّه في غياب الحريّة والتنافسيّة كثيراً ما يركن العقل الكسول إلى ما هو سائد، وعلى ما تمّ اختبار نجاحه.

لربّما يلمع الفنّان بقدر تمكّنه من كسر السائد، لا في مسألة شكل مُؤلّفهِ وحسب، وإنّما في التفكير خارج الصندوق، كما يُقال. لكنّه، في صناعة الفنّ، ليس تفكيراً بقدر ما هو رؤية البشر بوصفهم بشراً، لا جماعات. فالبشر طيفٌ لا محدود، والمشترك بينهم غير نهائي، بعكس الجماعات التي باختلافها مع الآخرين، تصنع سجناً لنفسها، هو صورة الآخرين عنها.

التأسيس على السائد، أمرٌ ناجح. لكنه محدود، وعدا عن كونهِ محدوداً فهو يصيب غرض الفنّ في مقتل، إذ يمسح عن البشر فردانيّتهم ويضفيها على المجموعة التي ينتمون إليها، سواء أكانوا أصحاب بشرة مميّزة أو ميول جنسيّة مميّزة أم كانوا طوائف لها اعتقاداتٌ خاصّة. وأيضاً ليس هذا اتهاماً، وإنّما محاولة لفهم كيف يعمل الفنّ عندما يتعاطى مع مواضيع شائكة أو في بيئات إشكاليّة. 

أخالُ أنّ الركون إلى الأنماط السائدة أمرٌ سهل. وهو مجالٌ رحِب للسياسيّ الذي يتعاطى مع البشر على أنّهم مجموعات، عليه تقسيمها كي يستثمر اختلافاتها. لكنّ الأمر مختلفٌ أشدّ الاختلاف لدى الفنّان. فهو، حتّى إنْ تعاطى مع أنماط سائدة، عليه أن يُظهِرَ فردانيّة شخصياتهِ وخصوصيّة عمله. وإلّا لسقط عملُه، مهما بلغ الاحتفاء بهِ في مرحلةٍ اعتاد جمهورها أصلا على أنماط سائدة أظهرها الفنّان في عملهِ. لكنّ المصير الأرجح مع مرور الوقت هو سقوط تلك الأعمال في النّسيان والمضيّ من غير أثر. فالجماعات ليست مجال عمل الفنّ، إّلا إذا كان عملاً في الفنتازيا التي أساسُها بناءٌ مُتخيَّل. لكنّنا كثيراً ما نقرأ في الرواية السوريّة، في السنوات الفائتة، أدباً ينتمي إلى الفنتازيا، على الرغم من تصدير الكتّاب لتلك الأعمال على أنّها واقعيّة. إذ لا يمكن للفنتازيا أن تكون أكثر تحقّقاً من وسم مجموعة كبيرة من البشر بسِماتِ فردٍ واحد.


* روائي من سورية

المساهمون