العدوّ الذي يريد أن يظلّ عدوّاً

29 أكتوبر 2023
أطفال ناجون أمام بيوتهم المقصوفة في خانيونس، 27 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

الحرب على غزّة، بعُنفها وجنونها، تُبيّن أنّ "السلام" الذي بدا في لحظة قريباً، ليس الآن مستقبَل المنطقة. إذا كانت حملة التطبيع أوحت بدنوّه، وإذا كانت اتفاقات أوسلو وما تبعها من قيام كيان فلسطيني، وما اتّفق عليه العرب في قمّة الرياض من مشروع صلح يقوم على حلّ الدولتين في الأساس، وما دعت إليه الأمم المتّحدة من حلّ الدولتين وصادَق عليه أعضاؤها بما في ذلك الولايات المتّحدة ودول الغرب إجمالاً... إذا كان ذلك في تزامُنه مع قيام كيان رام الله وانتقال ياسر عرفات إليها، واستلام فتح ناصية الكلام الجديد عنى، في جملة ما عناه، استرداد الفلسطينيّين قضيتهم واستعادتها من الوكلاء العرب، وتحوُّلها من قضية قومية بالدرجة الأُولى إلى أهلها وناسها الفلسطينيّين.

بدا أثناء ذلك أنّ ثمّة أساساً للصلح ومقدّمات للسلام. كان العرب والفلسطينيون بالدرجة الأُولى، هم رغم كلّ الظواهر والخطابات الدارجة، دعاة هذا الصلح والساعون إليه على الأساس الذي ذكرنا. أمّا الإسرائيليون فسرعان ما انقلبوا عليه. كانوا أحرص على انتصار عام 1967، وعلى دوام الحال عند هذا الانتصار الذي عنى أنّ لهم كلّ فلسطين. أمّا ترتيبات أوسلو فكانت بالنسبة إليهم انتقالية وحائرة ومؤقّتة. سياستهم كانت نوعاً من التغطية، بل التعمية على واقع ما بعد 1967.

لا بدّ أنّ هذا الوضع الذي شمل ملايين من العرب يقرب من عدد اليهود أنفسهم، بل يُهدّد بتجاوزه، كان محرجاً وملبساً ومحيّراً بالنسبة إليهم، لكنّهم ما كانوا على استعداد للتخلّي، بأيّ وجه، عن انتصار 1967. ما كانوا قادرين على إعادة سيناريو 1948 الذي انتهى بإجلاء أكثرية العرب واقتلاعهم من أرضهم، فالعالم الذي تغيّر بعد ذلك ما كان ليقبل بمثله، لكن الإسرائيليين كانوا بسبب ذلك في فترة انتظار، لم يتخلّوا بالطبع عن حلّ الإجلاء، لكنهم مارسوه ببطء وبالتدريج، ووضعوه نصب أعينهم، وكان بالتأكيد وراء مشاريع المستوطنات، ووراء كل سياستهم في فلسطين المحتلّة.

ربما لهذا بدت سياساتهم تتراوح بين عنف وعدوانية وإقصاء وغصب وقضم للأراضي. لم يضمّوا علانيةً الأراضي المحتلّة، لكنهم تصرّفوا على هذا الأساس. ربما لذلك كانت سياساتهم، في ارتباكها وحرجها، مثيرةً ومستفزّة للعالَم، الأمر الذي بدأ يتفاعل. لم تعُد "إسرائيل" يتيمة الهولوكوست، وبات العالم أبعد فأبعد عن هذا التاريخ الذي غدا، أكثر فأكثر، من صنيع الذاكرة ويقف عندها.

مشروع "إسرائيل الشاملة" يقتضي مشروعاً عربياً شاملاً

كان يتّضح بالتقادم، لكثيرين يتزايدون في العالم، أنّ "إسرائيل"، بمستوطناتها ومعتقلاتها وغزواتها للجوار الفلسطيني، هي الآن معنية بجعل الفلسطينيّين منبوذين وثانويّين وإقصائهم، الوضع الذي يجعلهم أقرب إلى الغيتو، يجعلهم هُم الضحايا ويُقرّبهم هكذا من هولوكوست آخر. ذلك عنى أنّ إرث الهولوكوست لم يعُد إسرائيلياً فحسب.

من الناحية الأخرى، بدأت الأنظمة العربية و"منظمة التحرير الفلسطينية"، بعد 1967، تقترح مبادئ للصلح مع "إسرائيل"، من مشروع الرياض إلى اتفاقات أوسلو، إلى تطبيع عدد من الدول العربية. ولم تعُد المسألة هي اعتراف العرب والفلسطينيّين. بل باتت المسألة في الناحية الأُخرى، باتت اعتراف الإسرائيليّين بالفلسطينيّين الذي هو الآن المشكلة. لا تريد "إسرائيل" التخلّي عن جزء من فلسطين، ولا إتاحة دولة عربية فيها. لن تقبل التخلّي عن الحلم التوراتي، فالمسألة ليست كما يظنّ البعض، اعتراف العرب بـ"إسرائيل"، إنّها، بالعكس تماماً، اعتراف "إسرائيل" بالعرب والفلسطينيين.

ضمّت "إسرائيل" الجولان ولم يسألها العالم عن ذلك، وهي الآن تضمّ الضفّة الغربية، وإذا كان سبق لها الخروج من غزّة، فها هي الآن تتراجع عن ذلك وتُخطّط للعودة إليها، بل لإجلاء أهلها وطردهم إلى خارجها. يمكننا الآن أن نفهم أنّ المشكلة ليست في اعتراف العرب بـ"إسرائيل"، بل في اعتراف "إسرائيل" بالعرب، يمكننا الآن أن نفهم أنّ المشكلة كانت على الدوام في الجانب الآخر، وأثناء ذلك، فيما كنّا نَبني خططاً قومية لاستعادة فلسطين، فإن "إسرائيل" هي التي حقّقت حلمها القومي. هي الآن أمام خطّتها لتهويد غزّة، في انتظار أن تنتقل إلى تهويد الضفّة.

"إسرائيل الشاملة"، هذا هو المشروع القومي اليهودي، وربما نحن الآن على أبوابه. يقتضي ذلك مشروعاً عربياً شاملاً، أو فلسطينياً شاملاً على الأقلّ.


* شاعر وروائي من لبنان

 
المساهمون