العدوان على غزّة: القصيدة سؤالاً

14 يناير 2024
من معرض تشكيلي في صنعاء عن غزّة، 10 كانون الثاني/ يناير 2023 (Getty)
+ الخط -

ليست المرّة الأُولى التي تُباشر فيها "إسرائيل" عدواناً على غزّة. مرّة جديدة تقع غزّة تحت وطأة القصف الإسرائيلي، لكنّها الآن مختلفة، ليس فقط بالمجازر والتدمير، بل هي، إلى جانب ذلك، حربٌ مصيريّة. إذا كانت حركة "حماس" تقاتل من أنفاقها، فإنّ فلسطين كلّها، والفلسطينيّين كلّهم، أمام اختبارٍ يستهدف وجودهم بالكامل.

فلسطين اليوم تدافع ثانية عن وجودها كلّه، وهي الآن أمام أن تكون أو لا تكون. معركتها هي هذا السؤال الكبير. الحرب لم تعد فقط "حماسة" كما يدعوها البحتري، ليست أغنية بقدر ما هي هذا السؤال. لا يكفي الوقت لإنتاج أدبٍ وفنٍّ عن عدوان غزّة، لكن مع ما أُنتج للآن، نجد أنّ القصائد هي، ليست منذ اللحظة الأُولى، أمام هذا الالتباس التاريخي الذي لم يكن السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر وما تلاه، سوى رجعه وصداه.

لم يكن مضى وقتٌ طويل على العدوان حين نشر سامر أبو هواش قصيدة "لم يعد مهمّاً أن يحبنا أحد"، حيث يقول: "القذائف حرّرتنا من آذاننا التي كنّا نسمع بها كلمات الحب، والصواريخ حرّرتنا من عيوننا". ليست الحرب هنا نشيداً، إنّها وحدة هائلة. إنّها خطٌّ أخير لصلاتنا بأنفسنا وصلتنا بالعالم.

يستدعي العدوان ما يُشبه أن يكون شعوراً بأنّنا على الحافّة

من هنا نفهم كيف يعود أبو هواش إلى محمود درويش، في ما يُشبه المُراجعة: "ويقفُ شاعرنا في الأفق البعيد/ ويصرخ أنقذونا من هذا الحبّ القاسي/ ثم يهمس معتذراً عن تفاؤل صبياني عابر/ ليس على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة". في كلام درويش معكوساً يبدو عدوان غزّة قدراً، يبدو منفى وطرداً وعزلة نهائية.

لن تكون قصيدة هند جودة، الشاعرة الغزّاوية، من الغرار نفسه، لكنّها، منذ البداية، تطرح سؤالاً آخر، وهو أيضاً هذا السؤال: "ماذا يعني أن تكون شاعراً زمن الحرب/ هذا يعني أن تعتذر/ أن تُكثر من الاعتذار للأشجار المحترقة/ للعصافير التي بلا أعشاش/ ماذا يعني أن تكون آمناً زمن الحرب/ يعني أن تخجل من ابتسامتك".

رغم بساطة جودة، فإنّ قصيدتها، من بعيد، تضع وجودنا كلّه أمام لحظة مصيرية، هي أيضاً خروجٌ من الذات ومن العالم، هي اعتذارٌ عن وجودنا، عن بقائنا نفسه. لا نملك الآن سوى سوء التفاهم هذا، سوى الاعتذار.

هبة أبو ندى شهيدة غزّاوية تفاجئنا في قصيدتها أنّها تكتب عن "غزّة جديدة" هي هذه المرّة في الأعلى، في الجنّة: "نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية/ أطبّاء بلا مرضى ودماء/ أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة". من البراءة، ممّا يُشبه الطفولة، تجد الشاعرة الشهيدة، بخيال فردوسي، سؤالها الوجودي، غزّة ثانية خارج العالم، خروج إلى الجنّة.

لـ أصالة لمع أيضاً مشكلتها مع العالم، إنّه متناقض، بل إنّه يعارض وجودنا، يعارض نفسه، يعارض إيجابنا وإيماننا: "أنا أؤمن بكلّ شيء/ لكنَّ البرد أقوى في هذه الغابة الكبيرة". "كلُّ شيء معدّ للاحتفال/ العيد كالموت لا يخلف موعداً".

العدوان على غزّة هكذا يستدعي، ولو من بعيد، أم أنّ الأمر لا يزال على المفترق، ما يُشبه أن يكون شعوراً بأنّنا على الحافّة، أنّنا في لحظة تأسيسية، لحظة أن يعاود فيها النظر في صلتنا بأنفسنا وبالعالم، بقدر ما هي لحظة إشكالية في العلاقتين. نحن هكذا نرجع إلى عدوان غزّة لنعاود طرح سؤالنا الأوّل. ليس هذا سوى إعادة تسمية الأشياء.

ما كان يُعدّ سياسةً ونشيداً وطنياً، هو الآن يشمل وجودنا كلّه، ويطرح ما يشبه أن يكون أسئلتنا الأُولى وإشكالية وجودنا. يقول أكرم قطريب: "أصواتٌ تأتي من خشب الباب/ من الماء/ من لحم الهواء". ويقول عاشور الطويبي: "أن تحملي الحرب على ظهرك يا شجرة/ عبء لا يقدر عليه أحد غيرك/ أن تنفخ من على سبابة الوقت غبار النسيان يا شاعر/ عبء لا يقدر عليه أحد غيرك".

شوقي عبد الأمير بدروه يقول: "أقف وحيداً أصمَّ متوحّشاً/ ولا أشبهك أيّها الحجر/ سنتفق على الكتابة من جديد/ سأكون الصفحة وتكون الكلام". وسومر شحادة: "عزيزي سانتا كلوز/ لو تُحضر لي أباً عوض الذي قتلته الطائرة.../ لو تُحضر لي يد أبي أو عينَي أبي القديمتين ذاتهما". أمّا علي هاني شمس الدين، فيقول: "الموت ما يزال يصنع الهواء والنصر/ نجلس في المجزرة أو على التلال.../ لم يأت وقت الحزن بعد".

ليس بعيداً عن السياسة ولا عن المعركة، بل في عمقهما، وهُما يتحوّلان إلى تفاصيل وهوامش ودقائق إنسانية. المعيش يتّصل بالكوني والوجودي. إنّها تراجيديا ترشح أشياء ومشاعر وملاحظات. الإنسان هو هكذا في يومياته، لكنّه أيضاً في خواطره وأسئلته الروحية والمادية. إنّها أغانٍ في العاصفة، إنّها المعركة، لكن في صلبها وآفاقها وخياراتها وشروطها ومأزقها. المعركة وهي تُسفر عن حياة لكلّ لحظة وسؤال لكلّ يوم.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون