تنطوي رحلة سليمان التاجر إلى الصين في عام 237 هجري/ 851 ميلادي، على معلومات غاية في الأهمية حول أخبار هذا البلد الكبير، وعلاقة التجّار العرب به، وأحوال المستعمرة التجارية العربية في مدينة خانفو (غوانزو الحالية) قبل تدميرها بعدة سنوات، وتحديداً في عام 264 هجري على يد متمرد صيني، كاد أن يطيح عرش الملك الصيني الأكبر لولا تدخل خاقان الترك التغزغز الذي هزمه ووضع حداً لتمرده.
والمعلومات عن سليمان التاجر شحيحة، لا تتعدى ما ورد في متن رحلته التي تلقفها أحد هواة جمع الرحلات البحرية، ويدعى أبو زيد السيرافي، في القرن التاسع الميلادي، إذ استنسخها بعد أن ضمّ إليها نتفاً متفرقة من أخبار الهند والصين ومقتطفات من رحلات أخرى إلى تلك البلدان.
حظيت رحلة سليمان التاجر باهتمام المستشرقين منذ القرن الثامن عشر، وأشهر من درسوها وحققوها، المستشرق الفرنسي غابرييل فيراند في عام 1922، حيث رسم خط الرحلة وحققها مع الأسماء المعاصرة، وخلص إلى دقة سليمان التاجر في وصفه للموانئ والبلدان التي مرّ بها.
من مسقط إلى ساحل المالابار
انطلق سليمان التاجر من مسقط على ساحل عمان، وقد وصف الأمكنة في هذا الجزء من الرحلة بقوله: "في غربي هذا البحر جبال عمان، وفيها الموضع الذي يسمى الدردور، وهو مضيق بين جبلين، تسلكه السفن الصغار، ولا تسلكه السفن الصينية، وفيها الجبلان اللذان يقال لهما كسير وعوير، وليس يظهر منهما فوق الماء الّا اليسير، فاذا جاوزنا الجبال صرنا إلى موضع يقال له صحار عمان، ويستعذب الماء من مسقط من بئر بها، فتخطف المراكب منها إلى بلاد الهند، وتقصد الى كولم ملي، والمسافة من مسقط إلى كولم ملي شهر على اعتدال الريح، وفي كولم ملي مَسْلَحة لبلاد كولم ملي تجيء السفن الصينية، وبها ماء عذب من آبار، فيؤخذ من السفن الصينية ألف درهم، ومن غيرها من السفن ما بين عشرة دنانير إلى عشرين ديناراً".
ومن كولم ملي على ساحل المالابار تابع سليمان التاجر رحلته، ومرّ بمضيق تالك شمالي جزيرة سيلان، وعبر خليج البنغال، فوصل إلى جزيرة لنجبالوس، وهي إحدى جزر نيكوبار. وقد لاحظ أن سكانها "لا يفهمون لغة العرب، ولا ما يعرفه التجار من اللغات، وهم قوم لا يلبسون الثياب، ورجالهم يخرجون من الجزيرة في زوارق منقورة من خشبة واحدة، ومعهم النارجيل، وقصب السكر، والموز، وشراب النارجيل: وهو شراب أبيض، فإذا شرب ساعة يؤخذ من النارجيل، فهو حلو مثل العسل، فإذا ترك ساعة صار شراباً، وإن بقي أياماً صار خلّاً، فيبيعون ذلك بالحديد، وربما وقع إليهم العنبر اليسير فيبيعونه بقطع الحديد، وإنما يتبايعون بالإشارة يداً بيد إذ كانوا لا يفهمون اللغة، وهم حذّاق بالسّباحة، فربما استلبوا من التجار الحديد ولا يعطونهم شيئاً".
ومن هذه الجزيرة يتابع سليمان التاجر رحلته عبر ساحل الملايو الغربي، ومن هناك إلى جزيرة تيومن الواقعة إلى الجنوب الغربي من ملقا، ومنها إلى رأس القديس يعقوب قرب سايغون في فيتنام الحالية، ومن هناك إلى جزيرة هاينان، فعبر المضيق الذي يفصلها عن أرض الصين، ليصل إلى ميناء خانفو، أو غوانزو في الصين الحالية.
في مدينة خانفو
ويذكر سليمان التاجر أن في خانفو، و"هي مرفأ السفن، ومجتمع تجارات العرب، رجلاً مسلماً يولّيه صاحب الصّين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون الى تلك الناحية، يتوخى ملك الصين ذلك، وإذا كان في العيد صلّى بالمسلمين وخطب ودعا لسلطان المسلمين، وأن التجار العراقيين لا ينكرون من ولايته شيئاً في أحكامه وعلمه بالحق، وبما في كتاب الله عزّ وجل وأحكام الإسلام".
ويلاحظ أن المتاع قليل جداً في هذه المدينة، والمتاع هو الأثاث واللباس والأواني، ويقول إنها تُحمل من البصرة، وعمان، وغيرها إلى ميناء سيراف، حيث ميناء السفن الصينية الكبيرة، فيعبّأ فيها وينقل إلى خانفو. وفي محاولته تفسير سبب قلة المتاع في هذه المدينة، يقول: "من أسباب قلة المتاع حريق ربّما وقع بخانفو، فيأتي الحريق على المتاع، وذلك أنّ بيوتهم هناك من خشب ومن قنا (أي بامبو) مشقق، ومن أسباب ذلك أن تنكسر المراكب الصّادرة والواردة، أو ينهبوا، أو يضطرّوا إلى المقام الطويل، فيبيعوا المتاع في غير بلاد العرب، وربما رمت بهم الرّيح إلى اليمن أو غيرها، فيبيعون المتاع هناك، وربما أطالوا الإقامة لإصلاح مراكبهم وغير ذلك من العلل".
لباس الصينيين وطعامهم
وبعد أن ينتهي من الحديث عن محطات الرحلة، ينتقل سليمان التاجر إلى وصف حياة الصينيين، فيبدأ بلباسهم: "لباس أهل الصين الصغار والكبار الحرير، وفي الشتاء والصيف، فأما الملوك فالجيّد من الحرير، ومن دونهم فعلى قدرهم، وإذا كان الشتاء لبس الرجل السروالين، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، وأكثر من ذلك على قدر ما يمكنهم، وإنما قصدهم أن يدفوا أسافلهم لكثرة الندى وخوفهم منه، فأمّا الصيف فيلبسون القميص الواحد من الحرير ونحو ذلك، ولا يلبسون العمائم".
أما طعامهم، فيقول إنه "الأرز، وربما طبخوا معه الكوشان، فصبّوه على الأرز فأكلوه، فأما الملوك منهم فيأكلون خبز الحنطة، واللحم من سائر الحيوان من الخنازير وغيرها". ويعدد لنا أنواع الفواكه والخضار والمكسرات والأشربة التي رآها في الصين، فيقول: "لهم من الفاكهة التفاح، والخوخ، والأترج، والرمان، والسفرجل، والكمثرى، والموز، وقصب السكر، والبطيخ، والتين، والعنب، والقثاء، والخيار، والنبق، والجوز، واللوز، والجلوز، والفستق، والإجاص، والمشمش، والغبيراء، والنارجيل، وليس لهم فيها كثير نخل إلّا النخلة في دار أحدهم. وشرابهم النبيذ المعمول من الأرز، وليس في بلادهم خمر، ولا تحمل إليهم ولا يعرفونها ولا يشربونها، ويعمل من الأرز الخلّ والنبيذ، والناطف وما شابه ذلك".
ويستقبح سليمان التاجر من عاداتهم قلة النظافة، فهم "لا يستنجون بالماء إذا أحدثوا، بل يمسحون ذلك بالقراطيس الصينية، ويأكلون الميتة وما شابهها مما يصنعه المجوس، فإن دينهم يشبه دين المجوس، ونساءهم يكشفن رؤوسهن ويجعلن فيها الأمشاط، فربما كان في رأس المرأة عشرون مشطاً من العاج وغير ذلك، والرجال يغطون رؤوسهم بشيء يشبه القلانس، وسنتهم في اللصوص أن يقتل اللصّ إذا أصيب". ولكنه يبدي إعجابه بعادة يلتزم بها الصينيون، الفقير والغني، والصغير والكبير، وهي تعلّم الخط والكتابة.
تعاملات الصينيين وعاداتهم
يقول سليمان التاجر عن التعاملات في الأسواق الصينية إن تعاملهم بالفلوس، أما الذهب والفضة، فيستخدم في المتاع، ويستوردون الجلديات، والعاج، واللبان، وسبائك النحاس. ويلاحظ أن دوابهم كثيرة، وليس لديهم خيول عربية، بل سلالة غيرها، ولديهم أيضاً حمير، وإبل كثيرة لها سنامان. ويشير إلى وجود الغضار الجيد، وهو الصلصال، ويقول إنهم يصنعون منه أقداحاً في رقة القوارير يُرى ضوء الماء فيه.
ويلفت نظر رحالتنا أن ملك خانفو لا يظلم أحداً من التجار، فإذا أراد شراء سلع، دفع ثمنها ضعف ما يدفعه التاجر العادي. ويقول إن أكثر البضائع التي يشتريها الملك هي الكافور.
أما عادات الموت والدفن، فهي كما يأتي: "إذا مات الرجل من أهل الصين لم يدفن إلّا في اليوم الذي مات في مثله من قابل (السنة التالية)، يجعلونه في تابوت، ويخلّونه في منازلهم ويجعلون عليه النّورة (الجص)، فتمصّ ماءه و يبقى، والملوك يجعلون في الصبر والكافور، ويبكون على موتاهم ثلاث سنين، ومن لم يبك ضرب بالخشب، كذلك النساء والرّجال، ويقولون: إنه لم يحزنك ميّتك، ويدفنون في ضريح كضريح العرب، ولا يقطعون عنه الطّعام، ويزعمون أنه يأكل ويشرب، وذلك أنّهم يضعون عنده الطعام بالليل فيصبحون ولا يجدون منه شيئاً، فيقولون قد أكل، ولا يزالون في البكاء والإطعام ما بقي الميت في منزلهم، فيفتقرون على موتاهم، فلا يبقى لهم نقد ولا ضيعة إلا أنفقوه عليه، وقد كانوا قبل هذا يدفنون الملك و ما ملك من آلة بيته من ثياب ومناطق، ومناطقهم تبلغ مالاً كثيراً، وقد تركوا ذلك الآن، وذلك أنه نبش بعض موتاهم وأخذ ما كان معه".
وبعد ذلك يذكر لنا مجموعة كبيرة من العادات والمعتقدات والقوانين التي تنظم حياة الصينيين، بعضها مستحب ما جانبه، وبعضها الآخر مستقبح. ومن ذلك: أن السفر في مناطق الصين يقتضي من المسافر أن يحمل ما يشبه جواز سفر مصدق من الملك والخصي، وهو نائبه، يتضمن معلومات مفصلة. وأنهم منصفون في معاملاتهم رغم عدم تعاملهم بالشاهد واليمين. وأن في كل مدينة كتّاباً ومعلّماً، يعلم الفقراء، وأولادهم يأكلون من بيت المال، ونساؤهم مكشفات الشعور، والرجال يغطون رؤوسهم. ويقول إنهم يأكلون لحم الملك إذا جار على الملك الأكبر، وأنهم يأكلون كل ما يقتل بالسيف.
ويشير إلى وجود أماكن للدعارة يبدو أنها مقدسة ملحقة بدور العبادة البوذية. ويقول إن الرجل في الصين يتزوج ما شاء من النساء، وأنهم يعبدون الأصنام ويصلّون لها ويتضرّعون إليها، ولهم كتب دين. ولا يغتسلون من جنابة، ويأتون النساء في الحيض. ويقول إنهم لا يستاكون ولا يغسلون أيديهم قبل الطعام ولا بعده.
حياة الملوك
يفرد سليمان التاجر فصلاً للتعريف بنظام الحكم في الصين وأحوال الملوك، فيقول إن عندهم عدداً كبيراً من الملوك الصغار، يتبعون للملك الأكبر الذي "لا يُرى إلّا في كل عشرة أشهر، إذ يقول إذا رآني النّاس استخفوا بيّ، والرّئاسات لا تقوم إلّا بالتجبّر، وذلك أن العامة لا تعرف العدل، فينبغي أن يستعمل معهم التجبّر لنعظم عندها".
أما الملوك الصغار، والمقصود ملوك المدن، "فإذا قعد أحدهم يقعد في مدينته على كرسيّ في بهو عظيم، وبين يديه كرسيّ وترفع إليه الكتب التي فيها أحكام الناس، ومن وراء الملك رجل قائم يدعى لينجون، إذا زلّ الملك في شيء ممّا يأمر به وأخطأ ردّه، ولا يعبأون بالكلام ممّا يرفع إليهم دون أن يكتبه في كتاب، وقبل أن يدخل صاحب القصّة على الملك ينظر في كتابه رجل قائم بباب الدار ينظر في كتب الناس، فإن كان فيها خطأ ردّه، فليس يكتب إلى الملك إلّا كاتب يعرف الحكم، ويكتب الكاتب في الكتاب: كتبه فلان بن فلان، فإن كان فيه خطأ رجع إلى الكاتب اللّوم فيضرب بالخشب، ولا يقعد الملك للحكم حتى يأكل و يشرب لئلا يغلط، و أرزاق كل ملك من بيت مال مدينته".
ويشير إلى أن ألقاب الملوك وجاههم يشتق من حجم مدنهم "فما كان من مدينة صغيرة يسمّى ملكها طوسنج، وما كان من مدينة مثل خانفو فاسم ملكها ديفو، والخصيّ يدعى الطوقام، وخصيانهم منهم مسلولون، وقاضي القضاة يقال له لقشى مامكون، ونحو هذا من الأسماء مما لا نضبطه. ولا يملك أحد منهم لأقلّ من أربعين سنة، يقولون: قد حنّكته التجارب".
ضريبة الرؤوس
من الأشياء اللافتة أن ملوك المدن لا يفرضون ضرائب على المواطنين خلا ضريبة الرؤوس التي تفرض على جميع الذكور بين ثمانية عشر عاماً وثمانين. أما الأجانب، فتفرض عليهم ضريبة بمقدار المال الذي يحملونه. وإذا ارتفعت الأسعار أخرج الملك من خزائنه الطعام وباعه بأرخص من سعر السوق، وبذلك ينعدم الغلاء. غير أن الملك يحتكر الملح والشاي، الذي يصفه لنا بأنه "حشيش، يشربونه بالماء الحارّ، ويباع منه في كل مدينة بمال عظيم، ويقال له الساخ، وهو أكثر ورقاً من الرطبة، وأطيب قليلاً وفيه مرارة، فيغلى الماء ويذرّ عليه، فهو ينفعهم من كل شيء". وهذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها مشروب الشاي خارج المصادر الصينية. ويقول إن عائدات الملح والشاي والضريبة المفروضة على العرب وغيرهم هي التي تشكل بيت المال، أي خزينة المملكة.