ثمّة حيوات استثنائية تشتغل بمبدأ الولّاعة. حكّة إبهام صغيرة تُخرج الشرارة من الزناد لإشعال الغاز المضغوط. هذا القليل من الجهد يكفي كي تتغيّر حياة بأكملها، ويضع عجلات القطار على السكة، بصفة نهائية. الشعيبية طلال (1929 - 2004) ــ التي يستعيد أعمالَها، حتى الخامس عشر من آذار/ مارس الجاري، معرض "الشعيبية طلال: ساحرة الفنون" في رواق CDG Expression في الرباط ــ من القلّة التي استطاعت أن تتجرأ على فعل ذاك القليل. يتزامن الحظّ السعيد وعفويّة القدرة على التقاطه للمضيّ قدماً. تاريخ الفنون، رغم كل ما قيل وما يُقال، يشبه كثيراً تاريخ العلوم: مصادفاتٌ سعيدة لها منطق التفّاحة المتساقطة على الدوام.
لأوّل وهلة، تبدو الشعيبية طلال، لمن ينظر إليها، كما لو تخرج للتوّ من ألبومات مصوّري الحملة العِلمية الفرنسية في المغرب، أوائل القرن الماضي: جَمالٌ بمقاس كبير للغاية، تسريحة شعر أملس أسود، مكلّل بعصابة موشّاة بالخرز، مفروق في الوسط على شكل خصلتين متساويتين تتدلّيان بسخاء أسفل العنق؛ أناقةٌ باذخة لا تتخلّى عن القفطان المغربي بألوانه الزاهية وأساور الذهب الكثيرة التي تزين معصمها، عينان سوداون متوقّدتان تنفذ نظرتهما الثاقبة إلى الأعماق. بُنيتها الجسمانية غير الاعتيادية، بقامتها الفارعة، تساعدها في توزيع الوزن الزائد، ممّا يجعل منها بُنياناً عتيداً متناسقاً من الأنوثة التي تسترخي بكَسَلٍ على الأريكة، كغجريّة ملوِّحة بمروحتها المرفوعة. الاقتراب من الشعيبية طلال يشبه الاقتراب من صاعقةٍ حنون، أليفةٍ بلا حدود، لمّاحة بلا حدود أيضاً، بضحكاتها المجلجلة الرنّانة وصوتها المشوب ببُحّة ذكوريّة خفيفة.
في البدء كانت هذه الرؤيا التي قصّتها على الباحثة الأنثروبولوجية فاطمة المرنيسي بلهجتها البدوية الصريحة: "رأيتُ حلماً هناك في الغرفة الصغيرة المجاورة التي تطل على الحديقة. كنتُ في المنزل، كانت السماء زرقاء، مغطّاة بالأعلام التي ترفرف في الريح، كما لو كانت هناك عاصفة. من الغرفة، حيث كنتُ، إلى الباب، عبر الحديقة بأكملها، كانت هناك شموع مضاءة. فُتح الباب. جاء رجال بملابس بيضاء وأحضروا إليّ فرشاةَ الرسم والقماش. كان هناك شبّان وعجوزان بلِحىً طويلة. قالوا لي: هذا هو مصدر رزقك من الآن فصاعداً. كيف كنتُ أكسب لقمة العيش في ذلك الوقت؟ وأنت ماذا تريدينني أن أفعل: امرأة أمّيّة، ما هي إمكاناتها؟ عملتُ خادمةً، نظّفت الغسيل، قمتُ بالأعمال المنزلية. لكنّني كنت أفعل ما يجب عليّ فعله بجدية". تعلق الشعيبية طلال قائلة: "إذن، كان هذا الحلم. لقد أخبرتكِ أنّ لدي إحساساً قوياً للغاية بأنّني يجب أن أحفر في مكانٍ ما. كنت أعلم أنّني في طريقي إلى شيء ما... ".
تحوّلت من أرملة فقيرة إلى واحدة من أيقونات الفنّ
عبقرية الشعيبية طلال الفطرية، كامرأة قرويّة عصامية، حادّة الذكاء، تتجلّى في هذه الجِدّيّة بالتحديد، في استيعابها وتفكيكها لرموز هذا الحلم العابر لمحاولة صنع أسطورتها الخاصة، عبر هيكلة "مسرحها الداخلي"، بالاستيقاظ من الحلم على الفور مباشِرةً العمل والانخراط في صيرورة الإنتاج، مع الإبقاء على الآخر أو المتلقّي حبيسَاً لهذه الأسطورة. وكما يُعلّمنا نيتشه: "لا توجد حقيقة في حدّ ذاتها. ثمة فقط مجموعة من الظواهر، منتقاة ومصنّفة من قبَل شخص يقوم بتفسيرها".
في بداية السبعينيات، رافق الفنّان المغربي أحمد الشرقاوي صديقه الفرنسي بيار غوديبير في رحلته الأولى إلى المغرب. كان هدف الناقد التشكيلي التعرّف على حركة الفنّ الحديث المحلّية الناشئة، التي بلغته أصداؤها. دعا حسين طلال كلّاً من الشرقاوي ورفيقه لزيارة مرسمه وتذوّق الكسكس الذي أعدتّه أمه، الشعيبية طلال. أثناء جلسة الشاي، تستأذن هذه الأخيرة بخجل أن تُطلِع الناقد الكبير على بعض الرسومات التي خربشتها بأصابعها، على قصاصات الورق المقوّى، مستخدمةً، في أقصى درجات السرية، بقايا ألوان ابنِها. يشعر الابن بالحرج، لكن غوديبر يتملّكه فضولٌ كبير. يفحص مطوّلاً هذه التركيبات البدائية، التي تستلهم أنماطاً من السجّاد المحلّي. ثم ينطق هذه الجملة فيما يتوجه بجدّيّة إلى حسين طلال: "لقد تمكّنتْ والدتُك من إنجاز هذا الفنّ الخام الذي لم يدركه بيسيير إلّا في شيخوخته، لكنْ كُنْ حذراً، ربما يكون مجرّد مصادفة، مصادفة سعيدة. دعها تستمر في الرسم حسب مزاجها، لكنّني أحذّرك من توجيهها أو التأثير عليها. إذا تابعتِ العمل في غضون ثلاثة أشهر، بالعفوية نفسِها، ستكون فعلاً رسامة رائعة للغاية". وصدقت النبوءة.
بعد بضعة أشهر فقط، سيدعوها بيار غوديبير، عام 1966، مقتنعاً بتصميمها وموهبتها، إلى المشاركة في صالون Les Surindépandants في "متحف الفنّ الحديث" في باريس. منذ ذلك الحين، بدأت تأخذ عملَها على محمل الجدّ وتكرّس له نفسها بالكامل. وبشهادة زكية داود، التي تعرّفت إلى الشعيبية طلال منذ بداياتها الأولى، أدركت الأخيرة "أن ممارسة الرسم انضباطٌ يتطلّب الكثير من العمل الذي انخرطت فيه عن طيب خاطر كامرأة شجاعة". هكذا أصبحت الشعيبية طلال في ظرف وجيز فنّانةً محترفة تعيش من عائدات لوحاتها. في عام 1972 التحقت برواق L’œil du Bœuf في باريس، الذي أنشأته البرازيلية سيريس فرانكو للدفاع عن "فنّ الرغبة الخام". أصبحت هذه الأخيرة الشريكة والمروّجة الدائمة لعمل الشعيبية طلال، حتى عام 1992، إلى جانب ابنها حسين، الذي كرّس نفسه بتفانٍ لنشر أعمال أمّه على حساب عمله الخاص.
بمقتضى كيمياء غريبة، سرعان ما ستتحول الشعيبية طلال من أرملة فقيرة تُكافح لإعالة ابنها الوحيد إلى أيقونة فنّيّة تجاوزت شهرتُها حدود المغرب. عُرضت أعمالها إلى جانب أعمال بابلو بيكاسو وبيير أليشينسكي وجان هيليون وهانس آرب وهنري روسو وكلود فيلّا. اختيرت لوحتها "راكب الدراجة" غلافاً لمجلّة Connaissance des arts المعروفة، في عددها الممتاز "فن المرأة في الفن الحديث". كرّستِ التلفزيونات الأجنبية العديد من الأفلام الوثائقية لعملها. حصلت في باريس على الميدالية الذهبية من الجمعية الأكاديمية الفرنسية للتربية والتشجيع في فنون علوم الآداب. توفّيت هذه الفنانة عام 2004. أعمالُها جزءٌ من المجموعات العامّة الفرنسية، مثل "الصندوق الوطني للفن المعاصر" أو "معهد العالم العربي".
كيف استطاعت امرأة عصامية أن تحتلّ هذه المكانة المرموقة في المشهد الفني العالمي؟ يبدو الجواب صعباً حتى على متتبعي هذه الظاهرة عن قرب، كأنّما الشعيبية طلال لغزٌ يستعصي على التفسير. لكنْ من المؤكّد أنّ الفنانة، عندما اقتحمت المشهد، حلّت ضيفةً جديدةً لم تخطئ في العنوان ولا في توقيت الزيارة. من المعلوم أنّ المناخ الفنّي في الخمسينيات والستينيات كان مأزوماً، وتعالت أصوات الحركات الفنية التحريرية (أمثال "دادا" و"كوبرا") التي كانت تُنادي بالانفتاح على العفوية وحيوية النشاط الإبداعي، من خلال الاهتمام بديناميات الفنون البدائية والفطرية والفلكلورية والوحشية، وإبداعات الأطفال والمعاقين ذهنياً، لابتكار مشروعٍ متحرر من أيّ هاجسٍ جمالي، يعطي الأولويّة للحركة قبل الشكل، متجاهلاً مفاهيم الجمال الكلاسيكية. وبتعبير الفنان البلجيكي ألشينسكي: "إنها مسألةُ غوصٍ أعمق، في الأرض، في المياه المفتوحة، في خضمّ الحريق، في الهواء الطلق، لإيقاظ الطبيعة الحيوانية التي تنبض في كل "متحضر"".
في هذا المناخ الفوّار، وضعت الشعيبية طلال قدَمها، وبدا من أوّل وهلة ــ من الصور الفوتوغرافية التي وقفت فيها بجانب كبار الفنانين والنقاد ــ أنّه مرحّبٌ بها. أعمالُها من الصعب تصنيفها. حاولت الأوساط الفنية في المغرب أن تضع على اسمها ملصق "فنّانة فِطرية"، لكنّ الشعيبية لم تكن تمارس نشاطها الفني بتلقائية، بل عن وعي بهذه الممارسة الخلّاقة المتيقّظة.
لم تكن تعمل بفطرية، بل عن وعي بهذه الممارسة الخلّاقة
ورغم حضور عوالم الطفولة في لوحاتها، لم تكن ترسم كالأطفال أو الفنّانين الفطريّين. كانت تعي أنّ هذه الخصوصية تمثّل طفولة الفن، بمعنى الحرية في إبداع لوحة جديدة خارج التقاليد والأعراف. مارست ألعاب الخفّة والتشويه في رسوماتها، التي تعطي للمتلقّي انطباعاً قوياً بأنه يدخل خيمة سيركٍ كبيرة، حيث كلّ لوحة على حدة تلتزم بأدائها الخاص؛ الخطوط الغليظة تحاول تثبيت هذه الكائنات الهشّة ذات العيون الشاخصة، بينما الألوان الزاهية بتبايناتها الصارخة تُغرق المشهد في احتفالية كرنفالية مؤثّرة. اللّوحة تنمحي بمجرّد انتهاء النظرة المتفحّصة. ولو أردتَ استعادة التفاصيل، ينبغي عليك إعادة النظر إلى اللوحة من جديد، لأنّها كتلة بصرية واحدة: شخوص بأقنعة تتلاشى سريعاً، لأنّ وجودها مؤقّت وزائل، وهي ليست مرئيّة لأنها موجودة، بل تنوجد فقط عندما تتطلّع إليها. الشعيبية طلال ساحرةٌ لا تريك الأشياء، إنما تحرّضك على ممارسة الرؤية التي تخلق فضاء رؤيتها. والبهجة دائماً بالموعد.
لقد كرّس عددٌ من كبار النقّاد في العالم الشعيبية طلال كفنّانة عظيمة في القرن العشرين. ولسببٍ وجيه، تلاقت أعمالُها مع ميرو وبيكاسو وموديلياني وغيرهم. لطالما ردّدت أنه بإمكانها أن يُدرج اسمها في قاموس عالميّ للفنون بين شاغال ودادا. منذ 1971، اسم الشعيبية طلال مدرجٌ في قاموس "لاروس" الفرنسي للفن. وفي عام 1977، دخلت موسوعة "بينزيت" المرجعية، وغيرها كثير.
في الحياة نتعلّم أشياء كثيرة، وننسى أشياء أكثر. لكنّ الأكيد أنّه "لا يمكن تعلّم الجهل"، كما يقول أندريه شيساك، هذا الفنان العصامي الآخر، الأكثر قرباً من الشعيبية طلال.