الشعر الوطني

04 أكتوبر 2020
محمد الجولاني/ فلسطين (جزء من لوحة)
+ الخط -

تسمية "الشعر الوطني" تكاد تكون وقفاً على الأدب العربي الحديث. لا نعرف في الأدب الفرنسي الحديث ما ندعوه الشعر الوطني ولا أظن أن في الأدب الإنكليزي الحديث ما ندعوه كذلك. كان في ألمانيا النازية شعراء وُسموا بالنازية، لكن أحدهم غوتفريد بن الذي تعاطف في البداية مع النازية قبل أن تعاديه هي، كان شاعراً لم يُشتهر عنه أنه كتب شعراً يوصم بالنازية، ولم يكتب بالتالي ما يمكن أن نسمّيه شعراً وطنياً.

في الشعر العربي الحديث ثمّة من يؤرّخون له في أنه انفصل، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، عن المناسبات التقليدية لـ الشعر العربي، ومن بينها المديح، لينتقل إلى نوع آخر من الشعر المعتدّ بجماهيريته وبموضوعه الذي يحلّ البلد محلّ الحاكم الممدوح، هذا الشعر الذي نُسب إلى البارودي وأحمد شوقي، بادئ بدء، اعتُبر فتحاً في الشعر العربي. يمكننا بالتالي أن نحيل الشعر الوطني إلى بدايات الوعي القومي والصحو على الاحتلال وعلى الوطن المحتل وماضيه ومفاخره السالفة؛ أي ما يعود إلى الحنين للوطن، الفخر والتباهي بالوطن، التركيز على قيم التحرّر والكرامة.

بالطبع لم ينشأ الشعر الوطني من عدم، سبقه في العصر الأندلسي شعر الحنين إلى الأوطان المغادرة، لكنّ هذا الشعر لم يتّسم بالوطنية ولم ينتسب إليها، فالشعر الوطني، كما يذكر مؤرّخو الشعر العربي، يعود إلى فترة الاستعمار ويندرج في الدعوة إلى التحرُّر منه. هذا ما يجعل من الشعر الوطني بادئ بدء أداة سياسية.

المفاخرة بماضي البلد هي أيضاً مباراة مع تراث محتلِّه

لكن التباهي والمفاخرة بالوطن والعودة إلى أمجاده وآثاره تضيف هذا الشعر إلى فرع في الشعر العربي وهو "الفخر"، والفخر كان شخصياً بقدر ما كان عودة إلى النسب ومباهاة به، والمقصود بذلك النسب القبلي. هذا ما يجعل الشعر الوطني كموضوع يتكئ على نوع كالفخر، لكنه كروح ومضمون يزاوج بين المحتد القبلي والمحتد القومي، بين المفاخرة القبلية والمفاخرة القومية. إذا وقفنا عند هذه المفاخرة فإنها سوف تكون اعتداداً بالأصل واعتداداً بالعرق واعتداداً بالتاريخ، في ذلك لا نبعد كثيراً عن عنصرية مضمرة، فالأمة المقصودة هي الأمّة المنظورة، وأم الفضائل والأمجاد العظيمة التي اجتمعت فيها الامتيازات، بحيث إنها لا تشكو من شائبة، ولا يخالط تاريخها المأثور هنّة أو وصمة.

الوطنية بهذا المعنى ليست سوى الاعتداد بكل ما حوته الأمّة واشتمل عليه الوطن، في ماضيها بشكل خاص. سيكون ما هو أقلّ من الاعتداد وصمة إن لم يكن خيانة. هكذا نهل الشعر الوطني من ماضي شعوبية مضادّة، فالمفاخرة بماضي البلد وتاريخه هي أيضاً مباراة مع تراث محتلِّه وسباق معه.

كان محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وسواهما هم الشعراء الأوائل الذين يُنسب إليهم الشعر الوطني. لا بد أن الفترة، وهي فترة تململ قومي ضد السلطة العثمانية والهيمنة الغربية المباشرة والضمنية، كانت حافلةً بالشعراء الوطنيين. لكن تسمية الشعر الوطني لا تقف عند هذا الحد، فالنكبة الفلسطينية أطلقت مجدّداً هذا النوع من الشعر وطوّرت فيه.

لا بد أن شعراء العرب يومذاك، مهما تكن أسماؤهم كانوا شعراء وطنيّين وكان ما ينظمونه يندرج في الشعر الوطني. لن يكون علي الجارم والرصافي وشبلي ملاط وبعدهم بدوي الجبل والجواهري وأبو ريشة وغيرهم سوى شعراء وطنيّين. الشعر الوطني على هذا النحو كان فرعاً مجدّداً من الحماسة، أي الشعر الفروسي الحربي، وهذا الشعر ذو نبرة قتالية وانتصارية.

أضافت النكبة الفلسطينية إلى الشعر الفلسطيني، شعر عبد الرحيم محمود وبعده أبو سلمى وسواهما، حنيناً موجعاً، لكن النبرة مع ذلك بقيت نبرة الحماسة ونبرة القتال. لا بد أن الجيل الثاني من الشعراء الفلسطينيين، الذين جاء أبرزهم من فلسطين نفسها، جدّد بالتأكيد في الشعر الوطني، سميح القاسم، توفيق زياد، محمود درويش، لكن غناء هذا الشعر بقي إلى هذا الحد أو ذاك، غناء الحماسة. سنجد إلى جانب الحنين والمعاناة الجامعة كثيراً من الهجوم والنفس القتالي في شعر زياد وكذلك شعر سميح القاسم، ولو بقلّة.

مع ذلك تبقى الحماسة في شعر هذا الجيل، في حين محمود درويش ابتعد شيئاً فشيئاً عنها. لقد أضاف إليها يوميات الاحتلال ويوميات الشتات والمنفى أيضاً. هكذا نجت أشعاره مع الوقت من النفس الانتصاري والقتالي لتتحوّل أكثر فأكثر إلى إحساس مُرّ بالهزيمة، وليتحوّل شعرُه إلى مأساوية واضحة، في حين كانت فلسطين تتحوّل في هذا الشعر أكثر فأكثر إلى أوديسة وإلى ملحمة كونية.


* شاعر من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون